سيهات : المجتمع والولاية.. أبوطالب وخديجة نموذجاً

شبكة مزن الثقافية

     في جو مفعم بالمحبة لرسول الله ولآل بيته الأطهار أقام جمع من المؤمنين حفلاً بهيجاً بمناسبة ذكرى وفاة سيدة نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد (رضوان الله تعالى عليها) وتخليداً كذلك لناصر رسول الله عمه أبي طالب ، وقد بدأ الحفل بتلاوة عطرة لكتاب الله المجيد تلاها القارئ الأستاذ حسين ربعان، وبعد انتهاء التلاوة العطرة صعد المنبر الخطيب الحسيني والكاتب سماحة الشيخ زكريا داوود ليلقي مجلساً على روح المحتفى بهما، ثم قامت فرقة القائم(عج) بإلقاء نشيدة رائعة، تلا ذلك شعر للأستاذ الشاعر حسين الشافعي، واختتم الحفل بشعر رائع للشاعر الأديب علي جعفر، وفيما يلي محاضرة الحفل التي ألقاها سماحة الشيخ زكريا داوود والتي تناول فيها مكانة خديجة وأبي طالب من خلال نظرة قرآنية متأملة.


المجتمع والولاية..أبو طالب وخديجة نموذجاً

     ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
     هذه الآية الكريمة من سورة التوبة ترسم لنا العلاقات المتبادلة بين عنصرين من عناصر المجتمع الإسلامي أي بين الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات، كما أنها تؤصل لنظام الحقوق المتبادلة في المجتمع، فكما أن للرجال حقوق وواجبات يفرضها الدين ويوجبها للرجال فكذلك للنساء نفس الحقوق والواجبات(ولهن مثل الذي عليهن)، وقبل الخوض في مسألة الحقوق التي توضحها الآية نلقي نظرة على سياقها العام.

     الآية تقول (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) نفهم من هذه الآية أنها توضح بصيرتين مهمتين لتكوين التوافق الاجتماعي وهما:

1- الوحدة الروحية والنفسية بين المؤمنين والمؤمنات، فهي تدل على أنهم مع كثرتهم وتفرقهم من حيث العدد ومن الذكورة والأنوثة ذوو كينونة واحدة متفقة، فهم وإن اختلفت معيشتهم ومكانتهم الاجتماعية إلا أن الذي يحكم علاقاتهم هو الدين بكل قوانينه وأحكامه، وهم بسبب هذه الوحدة يشكلون تياراً تاريخياً وتياراً معاصراً يتطور مع الزمن ويتشكل في كل مرحلة وفق ما تتطلبه الظروف، لكن الرابط الذي يحكم هذه العلاقات هي القيم السامية.

2-الولاية المتبادلة بين الفئات الاجتماعية. 
     فهذه الآية تدل على أن هناك ولاية متبادلة بين أفراد المجتمع، وولاية بين أبعاضه، فللمؤمنين ولاية على المؤمنات وللمؤمنات ولاية على المؤمنين لزيد ولاية على عمر ولعمر ولاية على زيد، وهنا تسقط مقولة اللامسؤولية، فكل شخص له مسؤولية تجاه الأخر، وهنا بالذات تسقط المقولة التي تروج في المجتمعات المتخلفة والتي يظهرها قول البعض عندما يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر(ليس لك دخل في شأني)، نعم لكل شخص خصوصيات، ولكن لا يعني ذلك أن يفعل ما يشاء دون زاجر.

     وهذه الآية كذلك تؤسس لعلاقات صحية بين عنصري الرجال والنساء بعيدة عن الريبة والشبهات، فهناك علاقة قائمة على الإيمان بالله والاحترام المتبادل بين النساء والرجال، لكن المجتمع المريض يوجه تلك العلاقة الإيمانية ويحرفها عن مساراها، القرآن هنا يأتي ليصحح هذه العلاقة ليقول أن المؤمنين والمؤمنات تربطهم علاقات، لا يوجد هناك قطيعة، لأن المجتمع المتكامل والذي يتطور هو المجتمع الذي يستطيع أن يربط بين كل الطاقات الاجتماعية نحو تحقيق الأهداف السامية.

     صفوان بن مهران يأتي للإمام الصادق ويقول له يا أبن رسول تأتيني المرأة المسلمة قد عرفتني بعملي وعرفتها بإسلامها، وحبها إياكم وولايتها لكم وليس لها محرم، قال فإذا جاءتك المرأة المسلمة فأحملها، فإن المؤمن محرم المؤمنة، وتلا هذه الآية(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ).  

الآية والحقوق المتساوية

     وهذه الآية المباركة تؤسس كذلك لقاعدة مهمة في بناء المجتمع الحر، وهي قاعدة تساوي الحقوق، ومفاد هذه القاعدة هو عدم التمييز بين الناس في إعطاء حقوقهم، فكما للرجل الحق في المشاركة السياسية وتولي المناصب فكذلك للمرأة هذا الحق، وكما للرجل الحق في التجارة والدخول في المجالات الاقتصادية فكذلك للمرأة هذا الحق، وهم أمام الدين وأحكامه متساوون فلا يفرق الدين بين الناس على أساس العرق أو الجنس، ولذلك يقول ربنا في هذه الآية:( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)، ومجالات الأمر بالمعروف كثيرة يدخل ضمنها حق المشاركة السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، وكذلك النهي عن المنكر يعني للإنسان حق معارضة الأخطاء الذي يرتكبها أي شخص في المجتمع، وهذا الأمر كذلك داخل ضمن الولاية البعضية.

     ثم تقول الآية:﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ، وإذا كانت الصلاة هي مصداق بارز للمسألة الدينية باعتبارها كما في الروايات عمود الدين وقد جاءت صيغة الفعل لتدل على العمل الجمعي،أي أن إقامة الصلاة تتم من خلال فعل المجموع، وهو ما يعطي دلالة مهمة على أهمية جعل هذه الفريضة تشكل تياراً اجتماعياً يتمحور حول أهم فرائض وأسس الدين، وهذا المعنى المطلوب للإقامة، وكذلك الزكاة التي تشكل محوراً أسياسياً في سد حاجات الفقراء والمحتاجين وبناء المرافق العامة والدعوة للدين ونشر تعاليم أهل البيت فإن هذه الفريضة يتم الالتزام بها من خلال المجموع لكي تعطي ثمارها الكاملة، لأن إلتزام البعض بها دون البعض الآخر قد لا يساعد كثيراً في تحقيق الهدف المطلوب منها.

     وإذا كانت كل تلك القيم والمباديء مطلوبة ومهمة لبناء المجتمع الإسلامي فإنها كي تحقق هدفها لابد أن تنطلق من مبدأ الطاعة لله ولرسوله يقول ربنا:﴿ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وإذا أردنا أن نبحث عن مصداق بارز لهذه الآية المباركة من بين المؤمنين والمؤمنات في تاريخنا الإسلامي لرأينا أن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد زوجة الرسول الأكرم تتربع من بين كل المؤمنات على القمة حتى وصفها رسول الله بأنها سيدة نساء أهل الجنة.
     وقد كانت خديجة(عليها السلام) المثال البارز في تاريخنا الذي مارس كل حقوقه في ظل الإسلام، وبهذا الدور المتكامل الذي طبع حياتها مع الدين الجديد أصبحت منارة بارزة لكل نساء الدنيا، فهي أول المؤمنات برسول الله وهي التي حضنت الرسول وسخرت كل إمكانياتها المادية والمعنوية لنصرة الدين حتى قتال عنها الرسول:ما قام ولا استقام ديني إلا بشيئين مال خديجة وسيف علي ابن أبي طالب.
     وعن ابن عباس قال: خط رسول الله أربع خطط في الأرض وقال: أتدرون ما هذا: قلنا الله ورسوله أعلم فقال رسول الله : أفضل نساء "أهل" الجنة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.

     والمثال الآخر الذي يمكننا نراه لتلك الآية هو أبو طالب بن عبدالطلب مؤمن قريش الذي نصر رسول الله ودافع عنه ولذلك اعتبر أهل البيت الدفاع عن أبي طالب دلالة على الإيمان وعدم الإقرار بإيمانه يعرض الإنسان للدخول في النار، فقد ورد عن ضامن الجنان الإمام علي بن موسى الرضا عندما كتب بعضهم يسأله" عن إسلام أبي طالب، وانه قد شك في ذلك، فكتب إليه ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا، ثم قال: إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار.

     وليس من المستغرب أن يبتدع أعداء أهل البيت الموضوعات التي تقدح في إيمان أبي طالب، لأن لغة التكفير دائماً يلجأ إليها من لا يمتلكون الحجة والبرهان وهي سلاح العاجز، لأن البراهين على إيمان أبي طالب ونحن هنا سوف نورد بعضها.  
                               
     عن أبي عبد الله قال: نزل جبرئيل على النبي فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: اني قد حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك وحجر كفلك، فالصلب صلب عبد الله بن عبد المطلب، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب. 

     وعن عبد الرحمن ابن كثير قال: قلت لأبي عبد الله إن الناس يقولون: إن أبا طالب في ضحضاح من النار، فقال: كذبوا ما بهذا نزل جبرئيل، قلت: وبماذا نزل جبرئيل؟ فقال: أتى جبرئيل في بعض ما كان ينزل على رسول الله فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن أهل الكهف اسروا الإيمان وأظهروا الشرك فأتاهم الله أجرهم مرتين، وان أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك فأتاه الله أجره مرتين، ثم قال: كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبو طالب فقال: يا محمد اخرج من مكة فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب.

      وعن الحسن بن علي العسكري قال: إن الله أوحى إلى رسول الله اني قد أيدتك بشيعتين: شيعة تنصرك سرا فسيدهم وأفضلهم أبو طالب، وشيعة تنصرك علانية فسيدهم وأفضلهم علي بن أبي طالب.

     وعن محمد بن علي الباقر أنه سئل عما يقوله الناس أن أبا طالب في ضحضاح من نار، فقال: لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه. ثم قال: ألم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا كان يأمر أن يحج عن عبد الله وآمنة وأبي طالب في حياته، ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم؟