تراشق التوريث والتحديث

لا أظن أبداً أن هناك من هو «معقّد من معتقداته» فبيده أن يتنازل عنها ساعة ما يشاء، ومع التراشق الحاصل بين بعض كتاب إيلاف حول مقال «المعقدون من إسلامهم.!» أجد أننا وقعنا في فخ اللعبة الشطرنج الأمريكية ونحن نعلم بذلك، حيث أوقعتنا هذه السياسة بين أمرين يحسب البعض أن لا ثالث لهما:

• الموافقة على الديموقراطية التي تكفل حرية إرادة الفرد فقط وتصادر استقلالية وحرية الدول والنظم الحاكمة.

• التشبث بواقع متخلف صوّره البعضُ بأنه نتاج الفكر الإسلامي الصحيح، وهذا لا يعدو أن يكون تصورا لبعض الأفراد فقط عن الإسلام وفي حقب تاريخية معينة.

 فلا «أبو زكريا» بحسب قوله يريد التشبث بذلك التخلف، ولا الفريق الآخر يريد أن تصادر حرية دوله أو تصادر حرية نُظمه الحاكمة، وإنما هو وقوف طرف أمام هجمة وقحة وشرسة تأسّدت بها الإدارة الأمريكية، وهروب طرف من تخلّف سيؤدي بنا إلى ما هو أسوأ منه، حيث قرأ كل طرف واقعَه من زاوية مختلفة لتشخيصه، وهذا طموح مشروع وأبوابه مفتوحة بكل اتجاه يصل إليه ذلك الإنسان الذي أزرى به واقعه المؤلم، ذلك الواقع الذي رأى فيه البعض أن استمراره إهدار لكرامة الأمة لما لحق بها من ظلم وأهوال، وقد حاول البراءة منه بعض المنتمين إليه لما رأوا فيه من تخلّف على جميع الصُعد.

من جهة أخرى لا يمكن الفصل بين هذا الواقع بتعدد توجهاته ورؤاه العقدية والسياسية وغيرها من المؤثرات وبين مرجعية ذلك الواقع ومنهجيته الفكرية التي انطلق منها وتأسس عليها، فهناك إذا وقائع لها علاقتها بذلك التخلف، حيث لم يقترب أحد هذين الفريقين منه وهو التلازم بين المنهج الذي سارت عليه الأمة والواقع المتخلف الذي نحن فيه.!

فأي المناهج نستطيع أن نشخّصه في عالمنا العربي وارتفع صوت كل منا متألماً بسببه وراح كل طرف يرمي الآخر به، أو رأى فيه البعض سبباً ومصدراً لهذا التخلّف؟

فما لا شك فيه أن العالم العربي خضع لمنهج ونظام معرفي وسياسي غلب عليه نمط معين، وبناء معرفي واحد منذ وفاة الرسول الأكرم حيث تمّ ترسيخ هذا المنهج عبر الأنظمة التي توالت على إدارة هذا الواقع سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا على أساس أنه الإسلام الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.! وتمّ تسويقه عبر الزمن حتى أصبح التفكيك بين هذا الواقع المر والإسلام وكأنه أمر مستحيل!.

فهناك إذا قبول تام قائم على التغرير في الرأي العام بكل تلك القواعد التي أدارت الحكم وشؤونه وتمّ قبول كل الأساليب التي تمّت في إطاره بذلك التغرير، ولم يكن نمو وتكريس هذا المنهج في زمن قصير، بل إن الأمر احتاج تنقل الخلافة من دولة إلى أخرى لتستمد كل تلك الدول والنظم المعرفية وهيكلية العلاقات مع الآخر مشروعيتها منه على أساس اجتهادات أفراد انطلاقاً من منهج أسسه «الصحابة» انتقلت إلى من جاء بعدهم من أهل الحل والعقد حتى أصبح ذلك هو القناة الشرعية الوحيدة المتعارف عليها ثم تحولت بعد ذلك إلى الصورة المنمطة للإسلام.

فلنعد من هنا إلى واقع الخلافة الإسلامية عبر التاريخ، فأنْ يصل الرجل إلى كرسي الخلافة أسهل من أن يصل إلى كرسي القضاء، لأن هناك شروطا وقيودا يجب أن تتوفر لتتحقق بها أهليته للقضاء، وأما الأول فلا يعوزه إلاّ القوة والحظ لينال بهما شرعية ولايته.!

وهذا من المفارقات العجيبة جدا في تفاوت شروط هذين المنصبين العظيمين.

لقد غير هذا المفهوم الموازين واستبدل سلّم الأولويات الثقافية في الفكر الاجتماعي فأصبحت حركة المجتمع وحركته الثقافية والفكرية الاجتماعية في واقعها تدور حول رأي الأفراد الذين يدّعون تمثيل الإسلام وليس رأي الإسلام نفسه.