عصر التداول السلمي للسلطة في مواجهة العنف والإرهاب

   

   تأسيس دولة القانون في مجتمع ما زال يزحف باتجاه علاقات اجتماعية متينة بين أفراده، يعتمد على تنشيط قواعد العمل السلمي في جميع المجالات، أهمها المجال السياسي؛ حيث يكون العمل في السلطة أو من اجلها، موجها - بصورة فعلية أو شكلية- لجميع تصرفات الأفراد، مرة بتحديد سلوك الأفراد بتشريعات وقوانين وأوامر تتوافق وإرادة الهيئة الحاكمة، وأخرى بالتحريض على إجراءات العمل الحكومة من زاوية القراءة السياسية المختلفة- كليا أو جزئيا- للإحداث السياسية التي تعني عموم المواطنين في الدولة.

  وبالتالي، فإن الدعوة إلى سيادة القانون في العلاقات السياسية، بمعنى جعل القانون هو المرجع الأول في تقييم حركة الفرقاء السياسيين، باختلاف انتماءاتهم وعقائدهم، ومواقعهم ورتبهم، دون محاباة لطرف سياسي على آخر، وتقيد الأطراف في احترام قواعد القانون، تظل دعوة ناقصة ما لم تتفق المرجعيات السياسية على تحكيم قواعد قانون اللاعنف، سواء في التعامل السياسي بين التنظيمات السياسية المختلفة، أو في وسائل التبادل السلمي للسلطة من حيث طرق الصعود باتجاه السلطة أو النزول عنها.

  فهل يأتي اليوم الذي يتخلى فيه سياسيو البلاد عن سلوك العنف السياسي في العلاقات السياسية، ويعلنوا عن رغبتهم بالالتزام بالنهج السلمي في تحقيق أهدافهم، كانوا في السلطة أو خارجها، بان يجد جميع المختلفين أنهم يعملون من أجل ترقية شعوبهم، ورفع كفاءتها، وتحقيق الرفاه الاجتماعي لمواطني بلادهم، مع إقرار تبادل الأدوار السياسية، أي أن تحكم بعض التنظيمات السياسية البلاد وتمسك بسدة الحكم، بينما يظل بعضها الآخر يرصد برامج وفعاليات وآليات تنفيذ الخطط التي تتبناها الحكومة، وفق قانون التداول السلمي للسلطة الذي يمثل اختراقه خروجا عن عرف السياسية؟.

  تاريخيا، يبدو أن العلاقة بين من يتولى السلطة وبين من يروم الوصول إليها، هي علاقة تتسم في أغلب أوقاتها بالتشنج، لان الحكومات الاستفرادية "حكومة أشخاص" أو الحكومات الأيديولوجية كومة جماعة" التي قفزت إلى السلطة بوسائل القوة كالثورة أو الانقلاب، تعمل دائما من منطلق الاستحقاق على تنظيف السلطة من مخالفيها في الفكر أو السلوك، وتزج بأكثريتهم إلى دهاليز السجون دون محاكمات أو دون محاكمات عادلة، وتصور المعارضين لصوصا طامعين بمقدرات الوطن، أو خونة قادمين من وراء الحدود لتنفيذ مخططات أجنبية، وهنا المعارضة بين أن تسكت وتتحمل مظالم السلطة، وبين أن ترد بالمثل فالاتهامات تقابل بالاتهامات، والقوة بمثلها، وهو السلوك السائد للمعارضة في الدول التي لا تقبل الوجه الآخر.   

  تبدأ مشكلة العنف والعنف المضاد، من نقطة واحدة هي نقطة الانطلاق باتجاه السلطة، حيث تؤثر وسيلة استلام السلطة على فهم طبيعة العلاقات السياسية بين المستحوذين وبين المعارضين؛ فالحكومة الانقلابية أو الثورية ترى لنفسها قصب السبق في البقاء على كرسي الحكم، لأنها إنما وصلت إلى الحكم بعد نضالات وتضحيات لم يقدمها الآخرون الذين يريدون أن تقدم لهم السلطة على طبق من ذهب، أنهم كسالى لا يستحقون السلطة، لان الذي يأتي بسهولة وبساطة يذهب بسهولة أيضا، والذي يطلب السلطة بلا قوة لا يستطيع أن يحافظ عليها بلا قوة على فرض الوصول إلى السلطة بلا قوة.

  وبالتالي، عندما يجد المخالفون لنهج السلطة رغبتها في الحكم على مد الدهور، وإرادتها في التوارث أبا عن جد في إطار عائلي أو حزبي ضيق، واستعدادها للقضاء على حركتهم السائرة نحو مسك زمام أمور البلاد بالقوة والعنف الرسمي، فأنهم لا يفكرون إلا باستخدام القوة، لعلها تكون مفتاح باب سدة الحكم، فتقتل الحكومة أعدائها وتواصل المعارضة عملياتها، ويعيش الشعب هاجس الدفاع عن الوطن إزاء الأعداء المحتملين، ويُذبح الآلف من الأبرياء في السجون والمعتقلات، لان المواطنين المفترضين أصبحوا بحكم اختلاف توجهاتهم السياسية أعداء لا يمكن أن يعيشوا تحت سقف وطن واحد، فإما الحكومة وإما المعارضة، وربما الحكومة تأكل بعضها البعض وهكذا دواليك...

  هذا المعنى أشار إليه أفضل من أشار الإمام محمد الشيرازي "قدس" حيث يقول: لقد أثبت التاريخ قديماً وحديثاً أن الدولة التي تتخذ الإرهاب والقمع وسيلة لإرساء قواعد حكمها، سوف تسقط في نفس المستنقع الذي أوجدته بيدها، فالعنف يولد عنفاً مضاعفاً، وهكذا تسقط الدولة ـ التي من المفروض أن توجد الأمن والاستقرار ـ في دوامة الاضطرابات والانقلابات والمجازر الدموية، كما رأينا ذلك في الأنظمة العراقية التي وصلت إلى الحكم بالانقلابات العسكرية، وبدأت إرهاباً منظماً ضد الشعب العراقي بالتهجير والإعدام والاغتيال والتعذيب والسجن، ولكن هذا العنف انعكس على أنفسهم فأخذوا بتصفية نفس الأعضاء الذين شاركوا في الجرائم.. وهكذا فإن العنف يأكل نفسه أولاً قبل غيره.

   قد تكون مشكلة نقطة الانطلاق نحو السلطة محلولة في البلاد المتقدمة، لان أسيادها اتفقوا بعقد اجتماعي شامل على أن إدارة السلطة"الحكومة" تحكم البلاد بإرادة شعبية غالبية، بعد أن توافقوا على مبدأ "الشعب مصدر السلطات" وهو صاحب السلطة الحقيقة، فمن يريد أن يحكم البلاد ويقودها فله ذلك شريطة أن يبدأ من الشعب؟. إلا أن البلاد التي لم تقر بعد بحق الشعوب في حكم نفسها بنفسها، أو أقرت حكم الشعب دون أن تجري تغيرات جوهرية في قيادة السلطة، تعاني من سيادة استخدم العنف المنظم والعنف غير المنظم، وهو يتصاعد مع اقتراب المسافة بين الحكومة والمعارضة، فكلما تشعر الحكومة بان المعارضة باتت اقرب إلى السلطة، كلما أوغلت في الاعتداء على المعارضة باسم القانون وسيادة امن واستقرار البلاد، حيث إن الحكومات تجيد –دائما- فن ربط مصالحها الفئوية والحزبية بمصالح شعوبها حتى يختلط الحابل بالنابل.

  البداية الصحيحة لاختفاء العنف السياسي في البلاد الزاحفة باتجاه التبادل السلمي للسلطة هي إقرار حكومات هذه الدول، بأن السلطة حق لشعوبها، وأنها لا تقبل البقاء فيها إلا بتخويل من أصحابها الحقيقيين بطريقة التبادل السلمي للسلطة، وهذا نوع من الشجاعة السياسية التي قلما تفكر فيها حكومات بلادنا.

وسواء أدركت حكومات الدول القابضة على السلطة بالقوة أو لم تدرك، فان على المعارضة أن تمتلك الشجاعة الكافية في تحديد الرؤية السياسية الأفضل لمستقبل بلادها، من خلال إعلانها  الصريح عن الامتناع الكلي والنهائي عن استخدم العنف المضاد بكافة أنواعه، والتزامها بقواعد قانون السلام واللاعنف السياسيين، ولو تعرضت إلى العنف والإرهاب الرسمي، فأنها ستناضل من اجل أن لا ترد بالمثل؛ لان العنف لا ينتج إلا العنف.

   وبالتالي، فلكي نحقق مفهوم شرعية السلطة في بلادنا، وننتشل مستقبل أجيالنا من آفات الحروب والإرهاب والعدوان، فان على الأطياف السياسية الداخلة في الحراك السياسي بعناوينها المختلفة من حكومة ومؤيدها أو من معارضة وأنصارها القيام بـ:

- إعلان التخلي عن السلطة وتسليهما للشعب بمحض إرادة الجهات الحاكمة، انطلاقا من مبدأ أن السلطة حق للشعب، وهو يختار من يمثله فيها بالطرق الشرعية الطبيعية.

- إعلان تأصيل عصر التداول السلمي للسلطة، مع تحريم انتقالها بالوسائل غير الشرعية مثل التوارث، والانقلابات، والثورات.

- تأكيد العمل السياسي السلمي من قبل الحكومة إزاء معارضيها أو من قبل المعارضة إزاء الحكومة حتى مع فرض استمرار العنف من أحد الأطراف السياسية اعتمادا على مبدأ أن العنف لا يولد إلا العنف.

- تنشيط وتطوير أساليب المقاومة السلمية، والعمل على اختراع أشكال جديدة منها يناسب المرحلة السياسية الحديثة ويؤدي إلى تحقيق أهدافها.

-تشكيل منظمات إنسانية تعنى بتطوير سياسة اللاعنف كمنهج أساسي للتعامل بين الأطراف السياسية، وفقا لمبدأ "ادخلوا في السلم كافة" فإنه هو الأصل ونقيضه استثناء.