القرآن بين بناء الفرد وبناء الأمة

إن هناك ظاهرة تربوية في تاريخ الإسلام، تستحق الدراسة والتأمل والإحتذاء، خاصة لأولئك  الدعاة الرساليين الذين حملوا على عواتقهم بناء الطلائع الرسالية المؤمنة، بل لكل من يريد أن يسير بقوة على خط الرسالة والإيمان!  وهي أن هذا القرآن الكريم الذي صنع بالأمة الإسلامية ما صنع، حينما كان يتنزل في مكة، كان يركز على جهة واحدة، وقضية واحدة، وبعد هام في بناء الإنسان، وهو إيجاد واقع عقائدي حقيقي فعلي متحرك في روح الإنسان. ثم بعد ذلك تطرق إلى الجوانب الأخرى في المدينة، والتي تتضمن التعليمات والشرائع والأحكام، وتنظيمات المجتمع والسياسة والقيادة والدولة، وغير ذلك.

 ولهذا فإن السور المكية تهدف بناء العقيدة، وترسيخ المفاهيم الإيمانية، وتقرير المبادئ والأصول الاساسية التي تضمنتها رسالة الإسلام. وقد ظلت هذه السور المكية تتنزل على مدى ثلاثة عشر عاماً لتقر في النفوس هذه الأصول والمبادئ، حتى يتكون بناء الأفراد بناءً فعلياً حقيقياً جذرياً في ظلها. وبعد أن تشكل بناء العقيدة في داخل الفرد في هذه المرحلة، قام القرآن بعد ذلك ببناء الأمة في ظل العقيدة وتحت ظلالها الوارفة المديدة، فكان ذلك البناء المحكم، وذلك التنظيم المرصوص، وكانت تلك النفوس التي تأتي طائعة مستجيبة مختارة لكل أمر ولكل نهي، لكل إرشاد ولكل توجيه. فنستطيع أن نقول: أن النجاح السريع الذي حققته الدعوة في المدينة، لم يكن لولا هذا البناء الصلب والكيان الصلد الذي لا يتزعزع ولا يتزلزل..  ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يتنزل القرآن بهذا الثقل الهائل وبهذا المستوى الضخم وبهذا الزخم الكبير، وكأنه أمطار غزيرة تنمو في ظلها الخيرات، حينما تتنزل على الأرض الطيبة الخصبة. وبعد ذلك فإن السور المدنية، بما تحويها من قوانين وتشريعات، وأحكام وتعليمات، في الداخل والخارج، لم تكن لتجري مجراها في واقع الأمة لولا أساس العقيدة القائم في النفوس.

ولا يحق لأحد أن يقول، أن ذلك التنزيل، قد تأثر بالظروف القائمة، والأحوال لجارية، الموجودة في مكة آنذاك، ولهذا فنحن الآن وبعد أن آمنا بالله وباليوم الآخر، وبالرسالة، فلسنا معنيين بهذا الخطاب! والذي تدور فصوله وآياته حول التوحيد والشرك، والكفر والإيمان، والآخرة والمعاد.. كلا، فالله سبحانه قد وضع هذا الكتاب ليعمل في مكان وفي كل زمان، ولا يحق لنا تحت أية ذريعة من الذرائع أن نأخذ بعض القرآن، ونترك بعضه.  وشيء من الحقيقة أن نقول: أن السور المكية والتي تهدف إلى تقرير أصول العقيدة كما أسلفنا ،هي خير مربٍ للإنسان، وخير ينبوع للإيمان، وخير زاد للطريق، ظاهرها أنيق، وباطنها عميق، تحتوي بين ثناياها  الكثير الكثير من الحقائق التوحيدية، والبصائر الإيمانية العظيمة التي لها أثرها الهائل حينما يتلقاها القلب بالإيمان والتسليم.

ومن هنا نقول : إن بناء الأمة من خلال القرآن، لا يكون بالشكل المطلوب، ولا يعمل عمله المنشود، كذلك الذي أداه في بداية الرسالة إذا أغفلنا أهمية البناء الفردي الذي تحقق في مكة من خلال آيات العقيدة، التي فجرت ينابيع الإيمان تحت أقدام المسلمين!  وعلينا أن نعرف أن العقيدة الإسلامية ليست معلومات مجردة نظرية يتلقاها الإنسان في درس العقائد، وإنما هي واقع حي، وحركة نابضة في داخل النفس.

واليوم، حيث يواجه الرساليون صنوفاً كثيرة من التحديات والمسؤليات، سواءً في بناء الطليعة الرسالية، أو المجتمع الإيماني، لابد لهم أن لا يغفلوا جانب العقيدة ووصل الأرواح بأنوار الإيمان التي تشعها شمس القرآن أيما إشعاع. ويكفي للنفس أن تقف وتتملى طرفاً من إعجاز هذا القرآن، وتتلمس يد الغيب واضحة ظاهرة فيه، حينما ترى تصوير القرآن العجيب لحقيقة التوحيد، ذلك التصوير الذي لا يقدر عليه بشر، إلا خر خاشعاً متصدعاً من خشية الله!

وكما أننا نحتاج القرآن ليكون منبعاً للثقافة، وبصيرة في الحركة، ورؤية في الحياة، فنحن لا زلنا في حاجة له ليكون إشراقة للروح، ونبضة للإيمان، ورشحة للإرادة. وحقاً أن القرآن يحوي نظريات عظيمة ، ورؤى إجتماعية وسياسية وفكرية تحقق لنا الإستقلال، وتخلصنا من براثن الإستكبار. لكن الصحيح أيضاً أن القرآن نزل ليعمل في واقع النفس والضمير حتى يعمل في داخل المجتمع والحياة.

إن قادة الأمة  ودعاة التغيير يجب أن لا يغفلوا هذا الجانب في عملية البناء، وإلا كان بنائهم بناء ناقصاً أبتراً لا يبقَ ولا يدوم. فحتى تكون خطواتنا متنوازنة في المسير، لابد أن نمضي خطوة في جانب الإيمان والعقيدة، كما نمضي خطوة في جانب العمل والموقف، وإلإ فإن المسيرة سوف تتعرض إلى آفات كثيرة وآلام عسيرة، لن تستطيع بعدها المواجهة، بل حتى الوقوف على رجليها بكل ثبات. فلا يمكن لأمة رسالية أو مجتمع رسالي أو حتى تجمع رسالي أن يبنى بناء تاماً كاملاً، تتوثق فيه الأواصر، وتتحد فيه الصفوف، وتتلاقى فيه الأراوح والنفوس، ويحمل راية التغيير بكل قوة وثبات، قبل بناء الفرد بناءً محكماً سليماً، في ظل العقيدة، وفي ظل الإيمان. فهذا هو المنهج الذي تم به بناء أمة الإسلام.