آية الله المدرسي : التشيع . . هموم الحاضر وآفاق المستقبل

شبكة مزن الثقافية
سماحة آية الله السيد هادي المدرسي دام ظله

إذا كان قيام الثورة الإسلامية في إيران يعتبر أهم حدث في القرن الماضي يتعلق بشكل مباشر بالشيعة، فإن حدث العراق الأخير يمكن اعتباره الحدث الأهم في هذا القرن، بل يمكن دعوى تفوقه من حيث الأهمية عن حدث القرن الماضي، وذلك لتميزه بأمور عديدة يفتقدها الآخر.

وهذا يفترض استثارة جهود الطائفة لقراءة هذا الحدث بشكل جيد، كي لا تلدغ من حجر مرتين، وتتصاعد الأهمية لأن الحدث ما كان ليكون لولا دماء الشيعة وتضحياتهم، فهم صنّاع هذا النصر وإن جرى على يد غيرهم، فقد آن الأوان ليحمل بيرقَ النصرِ أهلُهُ، بعد أن أهدَوْهُ لغيرهم في غصص مضت.

وهذا يتطلب إعمال الفكر واستحضار التجربة أولاً، ولا يكون ذلك من دون مشاورة ومناقشة شاهدي العصر، الذين حملوا لواء التشيع وقضيته على أكتافهم سنين عددا، وضحوا من أجلها الكثير؛ من هذا المنطلق تحاول (رسالة الأربعين) أن تستوعب الرسالة في هذا الحدث من خلال حوارها مع سماحة آية الله المجاهد السيد هادي المدرسي . . .

 

س : سماحة السيد، من المسَلم به أن الفكر الشيعي حساس جداً من مفاهيم الظلم والاستبداد، وهذا ناشئ من عوامل مبدئية ودينية وتاريخية، ترى كيف يمكن للشيعة اليوم العيش في ظل عراق محتل؟

السيد المدرسي:

أولا: الشيعة بشكل خاص، والمسلمون بشكل عام يرفضون الظلم، ويعتبرونها من المحرمات الأولى والأساسية، ذلك أن ربنا ـ عز وجل ـ الذي خلق هذا الكون أقامه على العدل، وهو ـ جل وعلا ـ لا يرضى لنفسه أن يظلم عباده فكيف يرضى للعباد بظلم بعضهم البعض.

ثانيا: إن رفض الظلم يختلف من حالة لأخرى، ومن ظروف موضوعية لأخرى، وربما من شخص لآخر.

كمبدأ الظلم مرفوض لكن السؤال: كيف نحقق هذا الرفض، والجواب: بالدرجة الأولى لا بد من معرفة حقوقنا، لنعرف كيف يمكننا الدفاع عنها ومنع الظالمين من ظلمنا. وثانيا: لابد أن نكون حكماء، وهذا يتطلب أن لا نسمح  للظلم أن يقع، وليس فقط أن نعالجه إذا وقع، فإن الظلم يمكن تجنبه، مثله في ذلك مثل أي مرض أو مشكلة اجتماعية يتعرض لها الإنسان، حيث يكون لها حلان الأول الوقاية، والثاني العلاج. فحينما تكون أنت في حالة لا تسمح للآخرين بظلمك فأنت ترفع الظلم عن نفسك، تماماً مثل ما لو أنك قاومت الظلم إذا ظلموك. أما لو كنت من الذين يغرون الآخرين لأن يظلموهم فإذا وقع عليهم الظلم فكروا في كيفية العلاج والمقاومة، فأنتَ متأخرٌ جداً في دفعه.

من المطلوب الآن وفي كل آن، وفي العراق وفي كل مكان، أن يتعلم الناس كيف يتقون ظلم الآخرين لهم، وهذا يتطلب مجموعة من القرارات لكي نكون أقوياء.

وهنالك قاعدة عالمية تقول (كن قوياً لاحترمك) فالضعف يغري بالظلم، وثالثا: نحتاج إلى أن نكون مستعدين لدفع ثمن إقامة العدل ورفع الظلم، فالأمة التي تحجم عن الدفاع عن حقوقها إذا ظلمت خوفاً من دفع الثمن الباهظ فهي أمة لا تخرج من ظلامة إلا وتسقط في الأخرى.

ثالثا: نحن بحاجة إلى الوعي ليس بمعنى أن نعرف الأمور بل بأن نقدرها، وقد قلت في أكثر من مناسبة، إننا في العراق بحاجة إلى (تاءات) ثلاث، (تاء) التوعية، و(تاء) التعبئة، و(تاء) التكتل، لأني أعتقد أن أي جماعة تمتلك الوعي الكافي وقادرة على تعبئة قواها، بحيث تكون متناسقة ضمن حلقات من الكتل هذه الجماعة لا يمكن أن يقع عليها الظلم، وإذا وقع فهي قادرة على الدفاع عن نفسها بالشكل اللازم.

وفيما يرتبط بشيعة أهل البيت ؛ ووضعهم مع الظلم والاستبداد، فإني متفائل جداً، بحيث أستطيع القول أن العراق لا يعود مرة أخرى إلى عهد الحكم الشمولي الذي وقع خلال الفترة السابقة، لأن المارد الشيعي خرج من قمقمه، ولأن الشيعة ولدوا من جديد، ولا يعود مولود إلى ظلمات الرحم من جديد.

أما كيف سيكون هذا الأمر فهو مرهون بالظروف الداخلية والإقليمية والدولية.

س : سماحة السيد، كان العراق محط حضارات متنوعة على مرّ التاريخ، بل وفي مجالات متعددة، اجتماعية وسياسية وحقوقية وغيرها، وفي الوقت نفسه كان محط صراع الحضارات خصوصاً بين الإسلام والغرب، وهي اليوم محل أنظار العالم أجمع، فهل آن الأوان ـ اليوم ـ ليكون العراق محل انبثاق مشروع حوار الحضارات، وما هي مقومات هذا الانبثاق؟

السيد المدرسي: لست من الداعين إلى حوار الحضارات، لأن الحوار يعني مجرد الكلام والتفاهم، ونحن بحاجة إلى شيء أكثر من ذلك ألا وهو تكامل الحضارات، فالعراق باعتباره (موزائيك) من أقوام ومذاهب وتقنينات مختلفة، فهو من المناطق الجيدة لإجراء تجربة ناجحة في مسألة تكامل الحضارات، إن الحكم السابق في العراق، حاول صهرهم ضمن دائرة ضيقة، فإنه أراد من كل العراقيين أن يفكروا مثل رجل العوجة، ويطيعون كلامه، وأوامره التي لم تكن حكيمة في يوم من الأيام، مع إلغاء كل أشكال التنوع العراقي من قيام مختلف التكتلات الأهلية ـ المدنية، من أحزاب سياسية، إلى جمعيات اجتماعية . .  وغيرها.

وقد أثبت الزمن، كما أثبتت المبادئ من قبل أن هذا المشروع فاشل، وحينما يفشل مشروع، لابد من البحث في النقيض له، واعتقد أن تكامل الحضارات، بمعنى الاتفاق على المبادئ الرئيسية، ثم القبول بالتنوع والتعددية سيكون مشروعاً ناجحاً في العراق، وذلك لا يتم من نظام سياسي يستبعد هذه الحقيقة، وما نراه هو ضرورة أن يكون النظام قائم على الوسائل الديمقراطية أولاَ، والتي منها أن يكون لكل رأس رأياً،أي نظام عددي وليس فقط تعددي.، وثانياً: القبول برأي الأكثرية، وثالثاً: فصل السلطات، ورابعاً: احترام حقوق الإنسان، وخامساً: القبول بحق المعارضة، وضرورة وجود هذا النظام تنبع من تاريخ العراق، لأن الاستئثار الذي كان يسود العراق والاضطراب كان سببه هو تهميش الأكثرية وتحكم الأقلية برقبة العراقيين.

س : سماحة السيد، ثمة مبادئ وقيم شرعها الدين من خلال القرآن وأهل البيت تختص بظروف الحرب، وهي ما يمكن تسميتها (الحرب و أخلاقياته) فهل المسلمون في نضالهم في العراق من أجل الاستقلال، حملة رسالة أم حملة سلاح، وإذا اقتضى الأمر حمل السلاح فما هي المبادئ التي عليهم التحلي بها؟

السيد المدرسي: مبدئياً السلام هو الرافد الأساسي للحياة، والحرب هي الاستثناء، ولذلك فإن الحرب تحتاج إلى مبررات، في حين أن السلام ليس بحاجة إلى تبرير، والتبرير الوحيد المقبول للحرب أن تكون من أجل غيرها، أي أن تكون الحرب من أجل السلام ، لأن الحرب من أجل الحرب مرفوضةٌ تماماً.

 ثانياً: لابد أن تكون المبادئ التي من أجلها أقيمت الحرب ملحوظة أثناء الحرب، فأنت المناضل من أجل العدل  لا يمكن أن تظلم من أجل تحقيق العدل، فإن الله ـ عز وجل ـ لا يطاع من حيث يعصى.

 وثالثا: أن يلتزم المحاربون بالقيم الإسلامية في حالة القتال والحرب.

أما ما يرتبط بالعراقيين فاعتقد أن حصولهم على الاستقلال يكون بالنضال السياسي في الوقت الحاضر، مع الاستعداد للمواجهة في حالة الضرورة، فالأمر السياسي لم يستنفذ أغراضه بعد، وحتى في حالة حمل السلاح، فإن المسلمين هم حملة رسالة.

س : سماحة السيد، بعد انعزال طويل عن العالم الخارجي امتد لعصور من الزمن أضحى الشيعة اليوم في العراق في الصف الأول في المواجهة، حيث تحيطهم الآليات العسكرية، وتتوافد على بلادهم الشعوب المختلفة بمشاريعها المتنوعة، أي أصبح العراق محط العولمة في العالم العربي، والسؤال: ما هي مقومات الشيعة؛ فكراً ومجتمعاً، لحصانة المجتمع من تيارات التغريب، وبعبارة أخرى: ما هي مقومات الأصالة عند الشيعة ـ فكراً ومجتمعاًـ بحيث يحققون مشروع التحديث دون الانزلاق في مشروع التغريب؟

السيد المدرسي: مشكلة التردد بين الأصالة والتغريب لا تختص بالعراق، وإنما هي مشكلة الأمة الإسلامية كلها، حيث تعيش تحدي الأصالة في مواجهة تيارات التغريب، والتخوف من فقدان الأصالة لدى العراقيين في غير مورده، لأن الشعب العراقي أثبت في تاريخه القديم والحديث، أنه من أكثر الشعوب تمسكاً، بالأصالة، ويعتبر من الشعوب المستعصية على المشاريع الغريبة عنه؛ سواءً جاءت من خلال التغريب أو من خلال الترهيب.

أما المقومات فهي: المبادئ والقيم والمثل وتراث أهل البيت وتعاليمهم، وأيضاً مراقدهم، كل هذه مقومات تشكل ممانعة للشعب العراقي لحالة التغريب عن أصالته، فلقد جرب الشعب العراقي المبادئ الغربية المتمثلة في الأحزاب غير الدينية ومشاريع الحداثة الهجينة، ورفضها جميعاً، لكنه اليوم يبحث عن أصالته.

س : سماحة السيد، في المجتمع الشيعي تنوع ملحوظ على المستوى المرجعي والفكري والحركي، هل هذا التنوع عنصر قوة أم عنصر ضعف؟

السيد المدرسي: هو عنصر قوة بالطبع، لكن أي تنوع يمكن أن يكون عنصر ضعف إذا تحول إلى عداء أما إذا بقي في مستوى الاختلاف والتنافس فهو عنصر قوة، فلا يمكن أن نفرض على الناس نمطاً واحداً من الحياة والتفكير، ونمطاً واحداً من المرجعية، فبقدر ما خلق الله رؤوس خلق أفكار، وبقدرها أجاز للناس أن يكونوا أطواراً ومختلفين ومتفاوتين، لكنه ـ عز وجل ـ منع تحول الاختلاف إلى نزاع، فقد قال: (فلا تنازعوا فتفشلوا ويذهب ريحكم).

 أما كيف يمكن للشيعة إدارة اختلافاتهم، بحيث يكونوا يداً واحدة من جهة ومختلفين من جهة أخرى هذا هو الأمر الذي يعتبر التحدي الذي يواجهه الشيعة اليوم، ولابد أن يجدوا شكلاً وصيغة متناسبة لهم، بحيث لا تفرض عليهم نظرية واحدة ولا نمطا واحد وفي نفس الوقت يستفيدون من قوة الوحدة، أي كيف نتنافس في بطن التعاون، وكيف نتعاون في بطن التنافس.

س : سماحة السيد، هنالك مبادرة قمتم بها، وتناولتها وسائل الإعلام ألا وهي مبادرة إنشاء (رابطة علماء الدين في العراق)، حبذا لو تحدثونا عنها قليلاً.

السيد المدرسي: العلماء في العراق يمثلون قيادة حقيقية للمجتمع، والناس مع اختلاف أنماطهم وطريقة تفكيرهم إلا أنهم يتفقون على احترام العلماء وإتباع فتاواهم وتوجيهاتهم، والسبب الأساسي وراء تأسيس الرابطة هو أن نبدأ بنوع من أنواع التعاون ابتداء من الحد الأدنى من التكامل فيما بينهم، ثم التعاون في المشاريع العامة، وتأسيس المؤسسات الضرورية لمصلحة الشعب العراقي.

أما هل ستقتصر هذه الرابطة على العلماء الشيعة، فنحن بدأناها هكذا، وذلك لأن الآخرين لهم ارتباطاتهم وتنظيماتهم وتكتلاتهم، لكن الفراغ كان لدى الشيعة، لذا سعينا إلى سد هذا الفراغ، ولكنها لن تكون مقتصرة على علماء من طائفة معينة.

س: سماحة السيد، الإمام الحسين يمثل امتداداً لرسالة الأنبياء والرسل، وكانت مناسبة زيارة الحسين عليه السلام، مناراً للنهضات التحررية في العالم الإسلامي، فما هي البصائر التي يمكن أن نستلهمها من هذه المناسبة لواقعنا الحضاري اليوم؟

السيد المدرسي: إن الحسين قتل من أجل قيم ومبادئ، لأنه ذاب فيها وقتل من أجلها وأريقت دماءه الزاكيات على تراب كربلاء، فعلى مذبحها أصبحت لها القيمة، فبمجرد أن تَذكرَ أسم الحسين يعني أنك تلتزم بقيمه ومبادئه، وتعشق طريقته، وتحاول أن تقلده في إيمانه وتقواه، وشجاعته ومقاومته، واستعداده للتضحية، من هنا كان الأئمة الطاهرون عليهم السلام يؤكدون على زيارة مقام الأنبياء والرسل والأئمة من أهل البيت ابتداء من الإمام علي إلى مقام سيدنا ومولانا الحجة بن الحسن المهدي (عج)، ولذلك فإن مبادئ الأئمة هي تلك القيم التي انطلق منها النهضويون في التاريخ الإسلامي، كما أن مراقدهم كانت هي الأراضي التي انطلقت منها ثوراتهم.

نقلاً عن رسالة الأربعين ( نشرة صادرة عن حوزة القائم (عج)