ذكرى الأربعين ومناخات التحول

قال تعالى : ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الأحقاف 15

   كثيرة هي التحولات التي تقع في الحياة الدنيا , على مختلف مجالاتها , لأنها سنة طبيعية نراها في الطبيعة متعقلين أثارها , وأسبابها وتداعياتها , ولكننا في ذات الوقت ندرك أيضا أن هذه التحولات ليست منفصلة عن مناخاتها , إذ من دون هذه المناخات لا يمكن تصور هذه التحولات بكل أنواعها .

   إننا نسعى في الحياة الدنيا دائما إلى إحداث التحولات الإيجابية التي بإمكانها تقريب الإنسان إلى الدائرة الدينية بصورة أكثر، ولكننا قلنا أن مثل هذه التحولات لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تقع دون توفر المناخات والأرضيات المناسبة لوقوعه .

   وهنا نود أن نتأمل بعض موارد التحول مع لحاظ المناخ والأرضية ، مركزين في هذا الصدد على فلسفة الأربعين العددي , وهل أن هذا العدد له ظلال معينة أم ماذا يعني ؟

 b الأربعين مناخ التحول العقلي

تربط هذه الآية المباركة بين التحول العقلي وبين بلوغ الإنسان إلى سن الأربعين , وبالطبع أن المراد بالبلوغ هنا ليس البلوغ الشرعي , وإنما هو بلوغ الكمال , بمعنى أن خلايا الإنسان تكتمل وتجاربه تتكرس , بالإضافة إلى أنه قد استغنى تماما عن رعاية الوالدين .
    نعم إنه بداية التحول العقلي , ولذا ورد في بعض الأخبار " أن الشيطان يمسح على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب وهو يقول " بأبي وجه لا يفلح .
   تحاول بعض النظريات المادية الإيحاء إلى أن الإنسان في هذا الزمن غير قادر على تبديل عاداته وسلوكياته لأنها أصبحت قدرا عليه , لكن المتأمل في ظلال الأمثلة الدينية يلاحظ أن سن الأربعين مناسبة جيدة ومناخ متلائم للتغيير الذاتي عبر التوبة التي ذكرناها آنفا , ولا شك أن هذا الأمر مرتبط ارتباطا وثيقا بمرحلة الشباب المتوهجة , فيأتي هذا السن حتى يرشد من فورة الشباب ويعقلها .

   ولعل الروايات بظلالها تشير إلى ذلك :

• قال الصادق : إنّ العبد لفي فسحة من أمره ما بينه وبين أربعين سنة ، فإذا بلغ أربعين سنة أوحى الله عزّ وجلّ إلى ملكيه : إنّي قد عمّرت عبدي عمراً فغلّظا وشدّدا وتحفّظا ، واكتبا عليه قليل عمله وكثيره ، وصغيره وكبيره.ص388.
   
• قال الباقر : إذا أتت على العبد أربعون سنة قيل له : خذ حذرك فإنّك غير معذور ، وليس ابن أربعين سنة أحقّ بالعذر من ابن عشرين سنة ، فإنّ الذي يطلبهما واحد وليس عنهما براقد ، فاعمل لما أمامك من الهول ، ودع عنك فضول القول.ص389.
• قال النبي : أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده ، أبناء الخمسين ماذا قدّمتم وماذا أخّرتم ؟.. أبناء الستين هلمواّ إلى الحساب لا عذر لكم ، أبناء السبعين عدّوا أنفسكم من الموتى.ص391.
إذن يبدو من ما ذكرنا أن سن الأربعين هو مرحلة فاصلة ومتميزة , فهي وقت التحول والتركيز العقلي , وهي سن تحمل المسؤوليات العظام لا سيما بعد اكتمال أثار تربية الوالدين .
*  قال تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) القصص 14 .

 b الأربعين ومناخ التحول الثقافي

   وردت عندنا جملة من الروايات الدالة على حفظ أربعين حديثا , ولا شك أن المراد هنا ليس هو الحفظ فقط, وإنما هو وعي الحدي وإدراكه ومن ثم الجري عليه , وهنا عندنا روايات عديدة في هذا الصدد :

الرسول من حفظ من أمتي أربعين حديثا ينتفعون به بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما ).
الرسول :- من حفظ من أمتي أربعين حديثا في أمر دينه يريد وجه الله والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما ) .

 هذه الأخبار وأشباهها تريد أن توجد نوعا من العلاقة بين حفظ الأربعين حديثا وبين التحول الثقافي الذي يصاحبها بدلالة النتيجة وهي العلم والفقاهة , فكأن الفقه من هذه الزاوية متعلق بوعي هذه الأربعين حديثا , وبالطبع لا يراد انحصار الوعي بحفظ الأربعين حديثا فقط , وإنما لأن سياق الكلام هنا في هذا الاتجاه .

  b أربعين الإمام الحسين

   بعد أن قلنا أن الأربعين  عادة تصاحب جملة من التحولات , يمكن لنا هنا أيضا أن نتصور نوعا من التحول في زيارة الإمام الحسين ولو أننا لا نجد ذلك صراحة في الأخبار , غير أنه يمكن القول أن هذه الزيارة هي عبارة عن تجديد العهد والكون في ذات الاتجاه , لأن هناك علاقة صريحة بين الزائر والمزور .   

عالم دين ( السعودية )