(33)

الصبّار الشكور وآيات الله

أ . بدر الشبيب *

تكرر قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) في أربع آيات من القرآن الكريم. وفي ذلك دلالة واضحة على أن بلوغ مرتبة عالية من الصبر والشكر لهما دورهما الكبير في انتفاع الإنسان من آيات الله تعالى. فالصبّار والشكور صيغتا مبالغة في الصبر والشكر، تدلان على كثرة وعمق الاتصاف والتخلق بهاتين الصفتين.

ففي سورة إبراهيم، يقول تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). وقد ورد عن رسول الله قوله: (أَيَّامُ اللَّهِ نَعْمَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ، وَهِيَ مَثُلَاتُهُ‏ سُبْحَانَهُ) والمثلات هي العقوبات. فأيام الله تشمل أيام السعة والرخاء وأيام الشدة والبلاء. يقول صاحب تفسير الميزان: "ونسبة أيام خاصة إلى الله سبحانه مع كون جميع الأيام وكل الأشياء له تعالى ليست إلا لظهور أمره تعالى فيها ظهورا لا يبقى معه لغيره ظهور فهي الأزمنة والظروف التي ظهرت أو سيظهر فيها أمره تعالى وآيات وحدانيته وسلطنته كيوم الموت الذي يظهر فيه سلطان الآخرة وتسقط فيه الأسباب الدنيوية عن التأثير ويوم القيامة الذي لا يملك فيه نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله وكالأيام التي أهلك الله فيها قوم نوح وعاد وثمود فإن هذه وأمثالها أيام ظهر فيها الغلبة والقهر الإلهيان وأن العزة لله جميعا.

ويمكن أن يكون منها أيام ظهرت فيها النعم الإلهية ظهورا ليس فيه لغيره تعالى صنعٌ كيوم خروج نوح عليه السلام وأصحابه من السفينة بسلام من الله وبركات ويوم إنجاء إبراهيم من النار وغيرهما فإنها أيضا كسوابقها لا نسبة لها في الحقيقة إلى غيره تعالى فهي أيام الله منسوبة إليه كما ينسب الأيام إلى الأمم والأقوام ومنه أيام العرب كيوم ذي قار ويوم فجار ويوم بغاث وغير ذلك".

ففي أوقات البلاء تتجلى آيات الله فيُعمِل الصبّار صبره، فلا يهلع ولا يجزع، ويظل محافظا على ثباته واستقامته، فلا ينقلب على عقبيه. وكذلك تتجلى في أوقات الرخاء فيُعمِل الشكور شكره، فلا يبطر، فيقول ما قاله قارون:(إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي‏) أو ما قاله فرعون: (يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ). بل يقول ما قاله نبي الله سليمان : )هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ). 

‏والأمر ذاته ينطبق على قوله تعالى في سورة لقمان: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) إذ يكون راكب الفلك متنعما بجريانها في البحر، ولكنه يبقى على قلق من أي تغير قد يطرأ، كما قال تعالى: ( حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). بينما الصبّار الشكور لا يفارقه صبره في الريح العاصف، ولا شكره في الريح الطيبة. فكلاهما عنده من آيات الله التي ينبغي التوقف عندها.

وقد فصّلت هذا الأمر الآيات التالية من سورة الشورى: (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ . إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى‏ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ . أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ). 

أما الآية الرابعة، فهي قوله تعالى في سورة سبأ: (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

فهؤلاء المتحدث عنهم، كما يقول صاحب تفسير التحرير "لم يشكروا النعمة فبطروها، ولم يصبروا على ما أصابهم من زوالها فاضطربت نفوسهم وعمّهم الجزع فخرجوا من ديارهم وتفرقوا في الأرض".

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام