(14)

وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ

أ . بدر الشبيب *

النصيحة الخالصة تُشترى بالذهب الخالص، لأنها تمثل عصارة تجارب الناصح وخلاصة حياته وثمرة مطالعاته وتأملاته. ولذا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد، لأن عاقبة مخالفتها تكون الحسرة والخسران.  وهذا ما يؤكده الإمام علي في قوله: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَيرَةَ وتُعْقِبُ النَّدَامَةَ.

فالنصيحة عندما تأتي من أهلها ينبغي أن تُتلقى عند من تُلقى له بنفس طيبة شاكرة، وإن كانت مُرة ثقيلة. يقول الإمام علي بن الحسين مبينا حق الناصح في رسالة الحقوق: "وَأما حَقُّ النَّاصِحِ فَأَنْ تُلِينَ لَهُ جَنَاحَكَ ثُمَّ تشرئب لَهُ قَلبَكَ،وَتفْتَحَ لَهُ سَـــــــــمْعَكَ حتَّى تَفْهَمَ عَنهُ نصِيحَتَهُ، ثُمَّ تنْظُرَ فِيهَـــــا، فَإنْ كَانَ وُفّقَ فِيهَا لِلصَّوَاب حَمِدْتَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَقَبلْتَ مِنْـــــــــــــــــــهُ وَعَرَفْتَ لَهُ نَصِيحَتَهُ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ وُفّقَ لَهَا فِيهَا رَحِمْتَهُ وَلَمْ تتَّهِمْهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يألُكَ نُصْحًا إلا أنَّهُ أَخطَـــــأَ، إلا أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ مُسْتَحِقًّا لِلتُّهْمَةِ فلا تَعْبَـــــأْ بشيء مِنْ أَمْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ." 
 
فهناك دائما ناصح، وآخر مُدّعٍ للنصح، فيُصغى للأول، ولا يُلتفت للثاني. فإبليس لعنه الله ادعى النصح وأقسم لأبينا آدم وأُمّنا حواء أنه لهما ناصح: (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ). وقد جاء بقَسَمه مغلّظا، حيث المقاسمة تعني المبالغة في القسم، وأكّد ذلك بحرف التوكيد (إنّ) وباللام المزحلقة (لَمِنَ النَّاصِحِينَ). وكذلك فعل إخوة يوسف : (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى‏ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ). فأمثال هؤلاء المدّعون للنصح لا ينبغي الإصغاء لما يقولون، بل يجب التأمل في أهدافهم المضمرة، والحذر من الوقوع في فخاخهم.

أما الناصح الأمين فهو الذي يجب أن يلين له الجناح ويشرئب لما يقوله القلب. وهذا ما فعله دون تأخير نبي الله موسى كما يبينه تعالى فيقوله: (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى‏ قالَ يا مُوسى‏ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ . فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فالفاء في قوله: (فَخَرَجَ) تدل على التعقيب دون أي تراخٍ أو تردد.

أما قوم نبيّ الله صالح فإنهم لم يستمعوا لنصحه، مأخوذين بروح الاستكبار والغطرسة، فثقُل عليهم كلامه ومقامه، فأردى بهم ذلك إلى سوء المآل: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ).

فالنصح الخالص يحتاج دائما إلى نفوس متواضعة للحق والحقيقة، مهيأة مستعدة قابلة للاستفادة من النصيحة. يقول تعالى على لسان نبيه نوح : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). فلأنهم اختاروا طريق الغواية والضلال، لم يعُد ينفع فيهم النصح، وإن كان من عباد الله المخلَصين.

فلنهيء أنفسنا وقلوبنا لحب النصيحة والناصحين. يقول الإمام علي : ليكن أحبّ الناس إليك المشفق الناصح. ويقول الإمام الباقر : اتبع من يُبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يُضحكك وهو لك غاش.

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام