(10)

وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً

أ . بدر الشبيب *


الالتزام بالعقود وإيفاؤها من الأحكام التي ركز عليها الشرع الحنيف، فقال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). يقول صاحب مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام: "الوفاء هو القيام بمقتضى العقد وكذلك الإيفاء، والعقد العهد الموثوق به، وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال بينهما. ولعل المراد بالعقود ما يعم العقود التي عقدها اللَّه على عباده وألزمها إياهم من التكاليف، والعقودَ التي يعقدونها فيما بينهم من عقود المعاملات والأمانات ونحوهما مما يجب الوفاء به، ففي الآية دلالة على وجوب الوفاء بالعقود على ما هو ظاهر الأمر إلَّا ما أخرجه الدليل وقام على عدم لزومه وجواز فسخه".

وقد أثنى ربنا عز وجل على الملتزمين بمواثيقهم، فلا ينقضونها، وجعل ذلك من الصفات الموصلة إلى النهايات السعيدة، يقول جل شأنه: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ . وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ . وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ).

ومن هنا كان قوله تعالى: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) إلفاتا إلى عظمة العقد الواقع بين الزوجين، وإلى ضرورة الوفاء به واحترامه أشد احترام في كل الحالات، حتى عند قرار الانفصال وإنهاء العلاقة الزوجية. فالمسألة ينبغي أن تكون وفق ما قرره الشارع: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وليس بناء على المزاج الشخصي والانفعالات والأهواء. 

إن ما نشهده اليوم في مجتمعاتنا عند انعدام التوافق بين الزوجين وانتهاء مرحلة الصلح - التي كان ينبغي أن تأخذ كفايتها من الوقت والجهد والتفاوض وتقديم التنازلات بروح إيجابية، ولكنها في الغالب لا تكون كذلك - أقول: إن ما نشهده من نزاعات ذات طبيعة معقدة عند الوصول لمرحلة الانفصال من بعد عن الاحتكام لموازين العقل والشرع، وتحكيم لمنطق القوة والمساومات التي ما أنزل الله بها من سلطان،  ينبه أو يشير إلى خلل في الوفاء بهذا العقد المقدس وما تضمنه من بنود.

فالآية والتي قبلها تحتوي على إنكارات عدة على بعض التصرفات البعيدة عن الحق التي قد يمارسها البعض عند فصم العلاقة الزوجية، إذ يحاول أن يأخذ شيئا من صداق المرأة بغير وجه حق. يقول تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً). ويتجلى الإنكار تجليا واضحا في أكثر من عبارة:

أولها قوله تعالى: (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فالقنطار تعبير عن المال الكثير المبالغ في كثرته، المعطى لها صداقا. فبرغم كثرته الكاثرة لا يجوز أن يأخذ منه الزوج أي شيء وإن قلّ. وهنا يتجلى الإنكار في عبارته الثانية: (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) أي شيئا يسيرا، أو أدنى شيء. ثم في العبارة الثالثة: (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً). يقول صاحب مواهب الرحمن: "ولا ريب أن أخذ شي‏ء من صداق المرأة بعد كثرة علاقتها به بدون رضاها بهتان وإثم مبين واضح لا ريب فيه. نعم لو رضيت به لا إشكال فيه حينئذ كما في الخلع وغيره". فالخلع ينبغي أن يكون بالتراضي، لا بإلجاء الزوجة وإكراهها على طلبه. ثم تأتي العبارة الرابعة:   (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى‏ بَعْضُكُمْ إِلى‏ بَعْضٍ) فالاستفهام هنا إنكاري، والإفضاء كناية عن حصول المخالطة والمعاشرة والتمتع. أما العبارة الخامسة، فهي قوله تعالى: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) فهذا العهد المؤكد يجب أن يُلتَزم به، ولا يستهان بقدسيته، فإن في ذلك النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام