| 8 |

وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ

أ . بدر الشبيب *

ذكرنا في المقال السابق بأن بناء الفعل (يُوقَ) للمجهول يشیر إلى أن الخروج من حالة الشح يحتاج إلى تدخل رباني يفعله الله مع من يشاء من عباده ليكون من المفلحين. والله كما قال عن نفسه: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) على مقتضى علمه وحكمته.

لذا فإن على الإنسان أن يهيء نفسه ووعاءه وواديَه لاستقبال الفيض الإلهي كي تشمله وقاية الله لنفسه من الشح المرذول. وقد روى لنا علي بن إبراهيم في تفسيره درسا عظيما في هذا الشأن من حياة الإمام الصادق . ففي الرواية عن المفضل بن أبي قرة، قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) يطوف من أول الليل إلى الصباح، وهو يقول: " اللهم قني شح نفسي". فقلت، جعلت فداك ما سمعتك تدعو بغير هذا. فقال: وأي شيء أشد من شح النفس؟ إن الله يقول : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

لقد أوردت لنا الآية التاسعة من سورة الحشر مثالا حيّا لأولئك الذين وقاهم الله شح أنفسهم، فبلغوا أعلى مقامات الإيثار، متخلصين من أنانياتهم، متوهجين في بذلهم وعطائهم. يقول تعالى عنهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

إذ تجلت فيهم الوقاية من الشح بأجلى صورها من خلال:

أولا: يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ: فلا يرون في المهاجرين تهديدا لحياتهم الاقتصادية والاجتماعية، بل يرونهم شركاء يقتسمون معهم بكل حب أرضهم وخبزهم وماءهم، فهم محكومون بعقلية الوفرة، لا عقلية الندرة المالتوسية (نسبة إلى توماس مالتوس، الاقتصادي الإنجليزي).

ثانيا: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا: أي " أنهم لا يخامر نفوسهم تشوّفٌ إلى أخذ شي‏ء مما أوتيه المهاجرون من في‏ء بني النضير" كما قال صاحب تفسير التحرير، الذي يقول أيضا: "وكنى بانتفاء وجدان الحاجة عن انتفاء وجودها لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم". فصدورهم خالية تماما من التطلع لما أوتي إخوانهم المهاجرون من الغنائم. 
ثالثا: وَيُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ: والخصاصة شدة الاحتياج. 

وفي هذا الموقف الإيثاري قمة السمو الأخلاقي الذي لا يمكن بحال أن يتم تفسيره بناء على ما أسماه ريتشارد دوكينز الجين الأناني الذي حاول جاهدا أن يشرح من خلاله سلوك ما نسميه بالإيثار والتضحية من أجل الغير، رغم أنه يقول:

I am not advocating a morality based on evolution. I am saying how things have evolved. I am not saying how we humans morally ought to behave…. My own feeling is that a human society based simply on the gene’s law of universal ruthless selfishness would be a very nasty society in which to live. But unfortunately, however much we may deplore something, it does not stop it being true.

وترجمة نصه:
إنني لا أدافع عن أخلاق أُسست على فكرة التطور، فكلامي منصب على كيفية تطور الأشياء. وليس كلامي حول الطرق الأخلاقية لسلوك البشر. أشعر أن المجتمع البشري الذي يُبنى ببساطة على قانون الأنانية الشاملة الشرسة للجينات، سيكون مجتمعا كريها العيش فيه. لكن لسوء الحظ مهما كنا نشجب شيئا ما، فإن ذلك لا يمنع أن يكون صحيحا. انتهى.

ونحن نقول: صحيح أن الشح مغروز في الإنسان، كما أوضحنا ذلك، ولكن أمر إدارته يبقى تحت اختيار الإنسان نفسه، فإن أطاعه واتبعه أرداه، وإن خالفه وهذّبه وشذّبه كان من أهل الفلاح. ولذا ورد عن النبي قوله: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه.

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام