غربلهم الله

ناصر موسى الحسين *


الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية والاسلامية فرزت الكثير من المواقف والأفكار والأشخاص والجماعات وأبانت الحقيقة بعد أن كانت مختبئة خلف أطنان من الأصباغ، وتكشفت قبائح البواطن بعد أن تسترت بمظاهر الورع الزائف، وفاحت روائح النتن ولم تفد معها أرقى أنواع العود والبخور.

المعاناة التي تعاني منها شعوب المنطقة لا يمكن تغافلها والصد عنها، ليس الوضع كما كان في الماضي. تدفق المعلومات والسرعة في نقل الأخبار فضحت الكثير ممن كانوا يتعامون عما كان يحدث، أصبحوا اليوم مطالبين بموقف وتعليق على ما يحدث هنا وهناك، موقف غير متردد، موقف يواكب التسارع في الأحداث، ويرقى إلى مستوى المسؤولية تجاه الدماء والذبح والتفجير والتهجير والتعذيب والقهر بكل أشكاله.

ما جرى خلال السنوات القليلة الماضية وضع النخبة فوق محك خشن، لذا تفاجاً الكثير بمواقف غير اعتيادية من نخب كانت محسوبة يوماً ما على الاعتدال مثلاً ليكتشف الناس أنها ليست كذلك، وجرى تصنيفها مجدداً على أنها في اليمين المتشدد. والحال ينسحب على ليبراليين يفترض أنهم يمقتون المتاجرة بالدين ويروجون لنظرية الإنسان قبل الدين، ليتفاجأ المجتمع بأنهم غارقون في المذهبية أكثر من بعض أو معظم المطاوعة.

من يشاهد البرامج التي تبثها الفضائيات، أو من يتابع المقاطع المكتوبة أو المرئية التي تبثها وسائل التواصل الاجتماعي سيكتشف الكثير من قلة الحياء والقليل من الالتزام بالقيم والمبادئ. قد يمرر الناس المواقف المتقلبة للسياسيين، والتناقضات في مواقفهم، وركوب الموجة، فهؤلاء السياسيون يدّعون أن السياسة هي فن الممكن والبحث عن المصلحة. ولكن كيف للمجتمع أن يهضم "التنقز" للمحسوبين على التدين والمشيخة؟ كيف يكون مقبولاً أن يكون هذا الشيخ –مثلاً- من دعاة الوحدة بين طوائف المجتمع في الصباح، ومن أشد المعادين للآخر في المساء؟ أين القيم من هذا التقلب؟

ما جرى ويجري في المنطقة من حروب وإرهاب وقمع وتكفير وتهجير كشف المستور، وأبان المخفي وفضح الموتورين والمتثاقفين والمنافقين والمحتالين والوصوليين، وهو ما يستدعي التوقف ومراجعة تصنيفنا للساحة وشخصياتها وأقطابها وتياراتها، فالأقوال ليست الدليل القاطع للصدق وإنما الثبات على الأقوال وتحمل مسؤولية الكلمة، وتحويل القول إلى عمل والتمسك بالحق هو ما يميز الخبيب من الطيب.

مجلس الشورى حينما صوت غالبية أعضاؤه على رفض مشروع حماية الوحدة الوطنية، لم يفاجئ الكثيرمن عامة الناس لسبب واحد وبسيط هو أنهم لم يجدوا هذا المجلس يناقش قضاياهم الحقيقية الاستراتيجية، ويتبنى مطالبهم، وإنما ينظرون إليه باعتباره مجرد ديوانية يجري فيها الكثير من الكلام دون فائدة حقيقية، حتى لو أعلن بعض المحسوبين على النخبة (ومن بينهم أعضاء في الشورى أيضا) خيبة أملهم وإحباطهم من رفض المشروع، فهؤلاء يعلمون ماذا يعني مجلس الشورى ومن هم الذين يتحكمون في توصياته وبالتالي فإن الاندهاش هذا أيضاً لا طعم له.

إنها مرحلة يتجلى فيها التمحيص، وتتكشف فيها بوضوح المعادن الأًصيلة، فالحقيقة لا بد أن تظهر يوماً. فمرحباً بهذه الغربلة، وشكراً للثورة المعلوماتية التي ساعدت على فضح الزيف، وحتى لو لم تكن هناك ثورة معلوماتية وطفرة في الإعلام الجديد، فإن الله سبحانه وتعالى تكفل بهذا التمحيص والغربلة. ( يَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )

كاتب وصحفي سعودي