الإمام الحسين عليه السلام شعلة حب لا تنطفئ

بيان سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله)

شبكة مزن الثقافية http://almodarresi.com/ar/archives/3106
سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته
سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله المصطفى وعلى آل بيته المصطفين، صلوات الله عليهم أجمعين.

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى اولاد الحسين، وعلى اصحاب الحسين.

لقد أعطى السبط الشهيد ما ملكت يداه لربه، وفي سبيل اصلاح الأمة؛ فوهب له ربه المزيد من الكرامة؛ فرفع إسمه، وألقى في أفئدة الصالحين حبه، فإذا بشعلة الحب تزداد ألقاً كلما ازدادت معاني الفضيلة توهجاً.

ألا ترى كيف يتذكر المؤمنون الإمام الحسين كلما وقفوا لربهم قانتين؟ لأنه، عليه السلام، أقام الصلاة. وكيف يتذكرون عطشه عندما يمض بهم العطش في أيام الصيام.

 

إن في الدين الحنيف مثلاً أعلى للحياة الطوبى والخُلُق الحسن من الوفاء، والصدق، والامانة، وحسن الظن، وطلاقة الوجه،

وكلما تهنأوا بالماء، ذكروه ولعنوا الذين قتلوه عطشاناً بين نهرين جاريين. أما اذا حجوا، فانهم يتذكرون الإمام الحسين وخروجه من مكة يوم “التروية” لأنه خشي ان تنتهك به حرمة تلك الارض المقدسة.

ان المودة للقربى، التي جعلها الله سبحانه اجراً لرسالة النبي، صلى الله عليه واله فقال: [قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى][1]، تتجلى في أروع صورها عندما يقيم المؤمنون شعائر السبط الشهيد، عليه السلام؛ فيبذلون الغالي والنفيس من أجل إقامة الشعائر، وبأبهى صورة؛ حقاً إنها قمة الروعة والتي لا تجد لها مثيلاً في العالم.

والهدف الأسمى لهذه الشعائر الالهية أن تنصهر الأمة كلها في بوتقة المنهج الحسيني الذي هو تطبيق رائع لقيم الوحي ولكي يتحول نهج السبط الشهيد هو الأسمى في كل مكان؛ فهنالك تتحقق كلمة الرسول صلى الله عليه وآله: “إِنَّهُ (اي: الحسين) لَمَكْتُوبٌ عَنْ يَمِينِ عَرْشِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ مِصْبَاحُ‏ هُدًى‏ وَ سَفِينَةُ نَجَاة”[2].

 

 وإن نهج الامام الحسين، عليه السلام، يتجلى في الحقائق التالية:

 

  • مسيرة الاصلاح

لقد أعلن سيد الشهداء، عليه السلام، عند عزمه الرحيل الى العراق، أن غايته الإصلاح فقال: “وَ إنِّي لَمْ‏ أَخْرُجْ‏ أَشِراً وَ لَا بَطِراً وَ لَا مُفْسِداً وَ لَا ظَالِماً وَ إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي (صلى الله عليه وآله) أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَ أَبِي‏”[3].

إن الاصلاح سيد الخُلُق الكريم، الذي يتحلى به الابرار من عباد الله، إنهم، بعد انتصارهم على شيطان الهوى، يتصدون لإصلاح الآخرين؛ وذلك بالدعوة الى الخير وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أوَلَم يقل ربنا سبحانه:

[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُون])[4].

وقال تعالى: [إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْر][5].

وقال عز من قائل: [ادْعُ إِلى‏ سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة][6].

إن الإصلاح بكل شُعَبِه ومستوياته بمثابة درع سابغة تحيط بالأمة وتقيها من اختراقات الثقافات الجاهلية، ولولا هذه الدرع الواقية، لفسدت الأمة بما استهدفتها تلك الثقافات من سمومها النفاثة الفاسدة.

إن مناعة أمتنا قد تضعف قليلاً بعد أن تنتشر فيها أفكار سلبية تدعو الى الانكفاء، وتلهي الناس عن القيام بواجبهم الإصلاحي، لولا ان تجدد الوعي عند ابنائها بما انتهجه الامام الحسين، عليه السلام، من القيام للإصلاح، أصبح اليوم، ومن خلال شعائره المتنوعة، وسيلة لإيقاظ المجتمع وتذكيرهم بواجب الاصلاح.

إننا نشكر الله سبحانه لوعي الأمة بهذا المنهج؛ ولكنا لا ينبغي أن نغفل هذا الركن الاصيل في الشرع المقدس – ركن الاصلاح – وإنما علينا الاستقامة عليه حتى تغيب عنا مظاهر الفساد السياسي والاخلاقي والثقافي وغيرها.

  •  الإعداد والاستعداد للجهاد

إن الإعداد للجهاد قد لا يرقى الى الجهاد الفعلي إلا في ظروف استثنائية؛ ولكنه يقوم بدور حماية الأمة من الاعداء.

لقد أمرنا الله سبحانه بالاستعداد الجهادي أبداً، حيث قال تعالى: [وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ][7].

وأهم قوة جهادية لابد من توفيرها وإعدادها الاستعداد للتضحية، إنه قوة عظمى وقد توفرت لدينا في نهج السبط الشهيد، عليه السلام.

بلى؛ إن الإمام الحسين، عليه السلام، قد رسم بدمائه الزكية ودماء أهل بيته وأنصاره وبمأسي اهله وعياله، قد رسم للأمة خارطة طريق للنجاة من كل ذلة، وللتصدي لكل طاغية وبالتالي للعيش الكريم.

محور هذه الخارطة هو الاستعداد للشهادة، ورفض كل أنواع الذل، وتحدي كل الطغاة والجبابرة، والتمسك بشعار (هيهات منا الذلة) وجعله أصلاً أصيلاً في الحياة.

وإن الاستعداد للشهادة عند المنتمين الى مدرسة سيد الشهداء، عليه السلام، يسمو الى مستوى تمنيها أبداً. ألا ترى انهم يقفون عند ضريحه المقدس وينادون أصحابه الشهداء: “يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً”؟ وإذا سمعوا نداء امام الشهداء وسيد الاتقياء الحسين بن علي، عليهما السلام: “هل من ناصر ينصرنا؟” تراهم يرفعون اصواتهم: “لبيك داعي الله، لبيك يا حسين، لبيك يا حسين”؟

إن أعظم قوة للدفاع عن أمة أو شعب أو بلد يتمثل في استعداد الناس للتضحية، وهذا ما نجده بأروع صوره في مدرسة عاشوراء.

بلى؛ إن الاستعداد النفسي وحده لا يكفي في مواجهة كل التحديات؛ إنما ينبغي ان يتم عند أبناء سيد الشهداء، عليه السلام، إعداد أنفسهم على كل الاصعدة وفي كافة المستويات.. على كل حسيني، اليوم، أن يكون شخصية متطورة نوعياً، في وعي الاخطار ووعي كيفية مواجهتها حسب الظروف المحيطة بهم.

إن لغتنا إنما هي لغة الحوار؛ ولكنا ينبغي ان نكون على استعداد لمواجهة لغة القوة الغاشمة من أي مصدر أتت، وهكذا كان سلفنا الصالح.

 الهيئات الحسينية ركائز الاعداد ومراكز الاصلاح

ان الهيئات الحسينية هي المراكز الأمثل للإعداد الروحي للجهاد ومحاور لانطلاق الإصلاح في الأمة. أليس الاصلاح بحاجة الى تعاون وثيق بين المؤمنين تطبيقاً لكلام ربنا سبحانه: [وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ][8]، وتطبيقاً لعشرات الواجبات الشرعية التي امرنا بها؛ مثل: التواصي بالحق وبالصبر وبالمرحمة، ومثل الشورى في اُمور المسلمين، ومثل ا

إن الإعداد للجهاد قد لا يرقى الى الجهاد الفعلي إلا في ظروف استثنائية؛ ولكنه يقوم بدور حماية الأمة من الاعداء.

لاهتمام بها كما قال النبي، صلى الله عليه واله: “مَنْ لَمْ‏ يَهْتَمَ‏ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُم“[9]؟

بلى؛ وإن موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله ومجاهدة المعتدين والطغاة والجبابرة المفسدين في الارض، كل ذلك لا يمكن من دون التعاون، وما أحلى أن يكون هذا التعاون تحت راية الامام الحسين، عليه السلام، المنصورة وفي إطار الهيئات التي تشرفت باسمه الشريف.

إن في الدين الحنيف مثلاً أعلى للحياة الطوبى والخُلُق الحسن من الوفاء، والصدق، والامانة، وحسن الظن، وطلاقة الوجه، وتجنب العصبية والغيبة والتهمة والهمز واللمز والفواحش كلها؛ ما ظهر منها وما بطن، وهذه المُثُل العليا هي التي تصوغ المجتمع الحسيني في اطار الهيئات الحسينية، وهي التي تجعل من هذه الهيئات قوة هائلة في المجتمع تنطلق في مسيرة الاصلاح، وتتجاوز كل العقبات في طريقها، وتتحول كما البنيان المرصوص مدافعة عن كرامة الأمة واستقلالها.

  •  مواجهة التحديات

إن لكل شعب ركائز قوة، خفية أو ظاهرة، يعتمدها عند مواجهة التحديات. وأمتنا الاسلامية تعتمد ـ بعد التوكل على الله ـ على ما تملك من ركائز ايمانية ومن أبرزها قضية عاشوراء التي ترسخت في النفوس عبر الاجيال؛ لانها كنوز لا تنفد من الطاقة الروحية، والحماسة التاريخية، والايمان العميق. وها نحن اليوم نعيش بعض التحديات. أليس من الأمثل لنا أن نستفيد من هذه الكنوز؟

بلى؛ وعملياً نرى شعبنا قد تسلح بنهج أبي عبد الله، عليه السلام، لمواجهة طغيان الصهاينة في جنوب لبنان، ولمقاومة هجمات الارهابيين في العراق، واستقام ضد كل الظَلَمة الذين حاولوا تركيعه وبوسائل وحشية؛ كل ذلك تمسكاً بنهج كربلاء حتى اصبحنا مثلاً يحتذى في الصبر، وعنواناً عريضاً للاستقامة.

ولو أننا درسنا عِبَرَ عاشوراء بعمقٍ كافٍ لاستطعنا ان نستفيد من هذا الكنز العظيم، ليس فقط في التصدي للأعداء وإنما أيضاً لبناء دعائم حضارتنا الاسلامية لأن النفس البشرية، التي اطمأنت بالايمان واستساغت التضحية وأحبت العطاء سوف لا تفرق بين الحقول؛ فهي تضحي في ميادين الجهاد، وتضحي أيضاً في ميادين البناء.

وهكذا تتحول قضية عاشوراء الى طاقة حضارية تهدم وتبني؛ تهدم كل باطل وكل فساد وانحراف، وتبني مدنية وارفة الظلال راسخة القواعد، وهذا ما نحن اليوم بحاجة اليه. إننا بحاجة ماسة الى هدم أسس الفساد وكذلك الى بناء حضارتنا العادلة؛ باذن الله تعالى.

  •  ميراث عاشوراء

لقد إرتوت أرض كربلاء بازكى دماء؛ بدماء سيد الشهداء، عليه السلام، وأخيه العباس وإخوته، عليهم السلام، وبدماء ابنائه البررة وأصحابه الذين قال فيهم وفي أهل بيته: “إِنِّي لَا أَعْرِفُ‏ أَهْلَ‏ بَيْتٍ‏ أَبَرَّ وَ لَا أَزْكَى وَ لَا أَطْهَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي وَ لَا أَصْحَاباً هُمْ خَيْرٌ مِنْ أَصْحَابِي‏”[10].

وكان في أصحابه أكثر من ثلاثين ممن رأى رسول الله، صلى الله عليه وآله؛ فدعونا ـ أيها الاخوة ـ نتساءل: ماذا تركت هذه الملحمة العظمى التي كانت ثار الله في الارض وكان لونها صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة؟ ماذا تركت للامة وللانسانية من ميراث مبارك؟

إن ميراث الشهادة تمثل في أمرين:

الامر الاول: رفض الظَلَمة، والجبابرة، والمتسلطين بالقوة على رقاب العباد، وهكذا كان شعار الثوار والناهضين عبر التاريخ الاسلامي والذين أطاحوا بحكم بني أمية و أزعجوا كل حاكم ظالم، كان “يا لثارات الحسين”.

الامر الثاني: الإنتماء الى أئمة الهدى، عليهم السلام، ومن إتبعهم بإحسان.

لقد آمن الأبرار من هذه الأمة أن دينهم لن يكتمل الا بامامة المطهرين من أهل بيت الرسول، صلى الله عليه وعليهم أجمعين، وهكذا توثقت عرى الانتماء الى نهج الولاية الذي رسمه النبي المصطفى، صلى الله عليه وآله، في غدير “خم”، وعقد رايته للإمام أمير المؤمنين، عليه السلام، ثم لسبطيه الحسن والحسين، عليهما السلام؛ توثقت هذه العرى في أرض كربلاء.. حتى اصحبت جزءاً من ضمير الأمة.

واليوم؛ حيث إننا نعيش عهد الغيبة الكبرى وننتظر الامام الثاني عشر من أئمة الهدى، عليهم السلام، فإننا نزداد حاجة الى تحقيق انتمائنا بالمزيد من توثيق هذه العرى وذلك عبر النهج الحسيني، وعبر الطاعة الواعية، والإتباع الرشيد لفقهائنا الذين يتصفون بما ذكره إمامنا وسيدنا أبو عبد الله الصادق، عليه السلام، حيث قال: “فَأَمَّا مَنْ‏ كَانَ‏ مِنَ‏ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَوَاهُ، مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ”[11].

بلى؛ هذا الإنتماء يعتبر بمثابة كهف حصين للأمة في مواجهة الاختراقات الثقافية، والتمزقات الطائفية وغيرها.

إن الوحدة قوة، ولن تتحقق الوحدة إلا بإعتصام الجميع بالعروة الوثقى. أوَلَم يقل ربنا سبحانه: [وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَميعاً وَ لا تَفَرَّقُوا][12].

إن علينا اليوم إحياء ذكرى عاشوراء والأخذ بثارات سيد الشهداء، عليه السلام، عبر الاتباع الرشيد للعلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه.

نسأل الله العلي القدير أن يوفقنا جميعاً لذلك.

 

 

كربلاء المقدسة – 19 ذو الحجة الحرام 1434 هـ

محمد تقي المدرسي

 


 


 

 

[1]. سورة الشورى، الآية:23.


[2]. بحار الأنوار، الجزء:91، الصفحة: 184.


[3]. المصدر: الجزء: 44، الصفحة: 329.


[4]. سورة ال عمران، الآية: 110.


[5]. سورة العصر، الآية: 3.


[6]. سورة النحل، الآية: 125.


[7]. سورة الانفال، الآية 60.


[8]. سورة المائدة، الآية: 2.


[9]. مجموعة ورام، الجزء:2، الصفحة: 200.


[10]. الامالي (للصدوق)، الصفحة: 156.


[11] تفسير الامام الحسن العسكري، الصفحة: 300


[12] سورة آل عمران، الآية: 103