بيان الإمام المدرسي ـ بمناسبة حلول شهر محرم

شبكة مزن الثقافية

بسم الله الرحمن الرحيم


           الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله.  هاهي أعلام محرم إنتشرت في كل أفق، ولقد دوى مناد النجاة بالغرقى في بحر الذنوب، أن سفينة الحسين قد أزلفت، فمن أراد الخلاص فليركب, فإنها الأوسع وفي لجج البحار أسرع.

وها هو مصباح الهدى قد استنار به الفضاء الأرحب، فمن شاء النور فليتوجه تلقاءَه.

إن يوم الحسين كان ولايزال نهج حياة، وشريعة سلوك، وسبيل كرامة. وقد اختصر في ساعاته المعدودات, التي إمتدت حتى أصبحت دهراً, لقد اختصر منظومة القيم السامية التي نادى بها رسل الله سبحانه عبر التاريخ.
وكان الإمام الشهيد عليه السلام بذلك ثار الله وابن ثاره ووريث أنبياء الله والوتر الموتور.
بلى كان لواء المجد, وراية العدل, ونداء المظلوم في وجه كل ظالم، وثورة الكرامة ضد كل طاغ وباغ، وتلاد عز, وكهف أمل، وينبوع عزم، لكل من أراد تحدي عوامل الضعف في حياته.
إن الأمم لاتعيش بما تملك من معادن الثروة وسواعد القوة، وإنما تحيى بما تملك من ركائز إرادة, وعزمات تحدي, وأيام بطولة، ومعارك شرف خالدة.
وفي طليعة تلك الأيام، وتلك الركائز هي ملحمة الطف، حيث يقف الإمام الحسين ومعه ثلة قليلة العدد عظيمة العزم، في وجه طاغية زمانه منادياً:

 " هيهات منّا الذلّة".

ثم يورث هذا النهج شيعته ومحبيه، فإذا بهذه الكلمة تصبح نهج تحدي لكل الأباة من بعده، وإذا بروح الرفض تجري مع دماء أمة من الناس، تقض مضاجع الظالمين.
وهذه هي حقا سفينة نجاة الأمة، وذلك حقا هو مصباح هداها.
وإن كل من يحيي اليوم ذكرى عاشوراء- وهم بعشرات بل مئات الملايين من البشر- إنما يحيي هذا النهج, ويلبي لذلك النداء الذي إنطلق من فم سيد الشهداء في كربلاء، وهو يقول:

" أما من ناصر ينصرنا".

بلى يا أبا عبدالله نحن أنصارك ياحسين، وأنصار ذلك الدين الذي سقيت شجرته، وتلك القيم التي إستقامت بقتلك.. إن العواطف النبيلة التي أطلقتَها بشهادتك ياسيدي كانت وقودا لمسيرة الأمة على نهج تلك القيم التي آمنتَ بها بكل ما آتاك الله من نعم, والتي انعكست يامولاي في تضرعك إلى الله, ودعائك عشية عرفة، والتي يتلوها محبوك كل عام..
إننا - حين نعيش ذكراك- نعرف بأن وصيتك لنا تتمثل في ذلك الدعاء الذي يفيض حبّاً لله سبحانه وعرفاناً وتوحيداً وخلوصاً وتسليماً.
وصيتك لنا اليوم بأن نعود إلى ذلك القرآن الكريم الذي إستمهلت أعداءك عشية ليلة عاشوراء لكي تجدد العهد به. فنحن بإذن الله وحسن توفيقه نستمر في معاهدته، وتدبّر آياته, والعمل بشرائعه كلما ذكرنا شهادتك.
وصيتك لنا بتلك الصلاة التي نشهد أنك أقمتها وحتى في وسط المعركة.
وصيتك في الزكاة التي أديتَها, وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وصيتك لنا بأن نعيش أحراراً فلا نخضع لهوى مستكبر، ولا ظلم طاغية.
وصيتك لنا بأن نكون للمظلوم عونا وللظالم خصما.
وصيتك لنا بأن نتحلى بأسمى الفضائل في علاقاتنا حتى مع أعدائنا, لتكون الفضيلة هي المنتصرة بنا أبدا. لقد رأينا سيدنا كيف تعاملتَ مع جيش العدو فسقيتَه من الماء الذي تزوّدت به، وهم منعوك من ماء الفرات. وكيف قبلتَ توبة الحر وهو الذي كان أوّل من جعجع بك.
وكيف كنتَ في المعركة مثالا للشرف بينما كان عدوك أمثولة للنذالة والخزي.
إن البطولة التي عَلَّمتَنا كانت بطولة القيم قبل بطولة السيف، حيث تساميتَ يامولاي إلى حيث التوحيد الخالص لله سبحانه بعيدا عن الحقد والعصبية, وهكذا أصبحتَ ياسيدي محور وحدة مواليك الذين يرددون معك قائلين:

"إني سلم لمن سالمكم, وحرب لمن حاربكم, وموالٍ لمن والاكم, وعدو لمن عاداكم".

إن رسالة عاشوراء، هي رسالة الوحدة تحت راية التوحيد التي يحملها السبط الشهيد، وإننا في هذه الذكرى نصوغ أنفسنا على أساس هذه الوحدة، ونجدد العهد لنصبح أكثر إندماجا مع بعضنا, وابتعادا عن أسباب التفرقة وعوامل الشقاق.
ورسالة عاشوراء، هي رسالة الجهاد والإجتهاد، والورع والسداد، فلا مكان للتكاسل والتواكل، ولامعنى للتواني والتبرير.
وكلما بالغنا في الإجتهاد، فلن نبلغ مدى جهاد وإجتهاد أصحاب أبي عبد الله الحسين عليه السلام الذين بذلوا مهجهم دون الحسين .
ورسالة عاشوراء تعني محاسبة النفس, ونقد الذات، والشجاعة في إصلاح مافسد من أمور الأمة على كل مستوى وفي كل صعيد، فأمة تتحمل مسؤولية الإصلاح، تعيش بكرامة، وتذل أمة تتهاون عن إصلاح مافيها من فساد، وقد كتب إمامنا الحسين في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية وهو يخرج من مكة إلى ساحة المواجهة في العراق:
"...وأني لم أخرج أشَراً ولا بطراً ولامفسداً ولاظالماً, وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله, اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر, وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ."
وإذا كنتَ أيها الموالي لسيد الشهداء، قد عقدتَ العزم أن تعيش حسينيا هذا العام، فانهض بواجب إصلاح نفسك، ولاتهن في الكفاح من أجل التسامي إلى خلق أفضل, وعمل أحسن, وعطاء أكثر, وجهد أغنى بركة وأعظم يُمنا. إن الذين التحقوا بالإمام الحسين   من غير أصحابه هم القدوة لنا في كيفية النهوض من غياهب الغفلة ومتاهات السبات والتحول إلى عالم وعي المسؤولية والإجتهاد في أدائها.
فهذا حرّ بن يزيد الرياحي  ومن اتبعه في التوبة والأوبة إلى معسكر الشهادة, وهذا وهب, وهذا زهير, وكثيرون هم قدواتنا في الثورة على الذات، والنهضة من أجل حياة أسمى واغتنام فرص الإصلاح.
إن فرص التعالي إلى تغيير النفس وإصلاحها، والإنطلاق من تحت ركام الشهوات ومن ضمير سكرات الغرور, إن هذه الفرص محدودة جدا, ولعل فرصتنا في هذا العام تكون الأخيرة فلا نضيعها بالتردد والإستسلام لضغط الحياة.
وعلى خطباء المنبر الحسيني حفظهم الله تعالى أن يعرفوا عظيم مسؤوليتهم في تحدي سبات الأمة والإنهاض بها على وقع خطى السبط الشهيد.
عليهم أن يجعلوا الناس يعيشون نهضة الإمام الحسين في واقعهم اليومي, ويستضيئون بنور مصباحه لإنارة ظلمات حياتهم الراهنة, ويستفيدون من الطاقة العاطفية النبيلة التي يطلقها هذا الحدث العظيم في إصلاح مافسد من أمورهم يوما بيوم وساعة بساعة.
إن على الخطباء الكرام أن يضعوا النقاط على الحروف بلا غموض, ويجاهروا بالمعروف الذي يأمرون به, وبالمنكر الذي ينهون عنه, حتى وكأن السبط الشهيد يفعل ذلك لو عايشوه وعاصروه، بلى إنه سيد الشهداء الأحياء عند ربهم. وبذلك يكون ملحمة الطف معيارا لسلوك المجتمع, ومعيارا لتقييم العناصر في إطار المجتمع. فأي مجتمع يكون أقرب إلى خط السبط الشهيد يكون أقرب إلى الحق وإلى الجنة والرضوان، وأي عنصر يكون أقرب إلى نهج أبي عبد الله الحسين عليه السلام يكون أولى به وأحق بالإحترام وأحرى بأن يصبح للناس مقتدى ومنارا.
إن المجتمع الذي يدعي الولاء لآل البيت إنما يتجلى ولاؤه في سلوكه وفي تكيّفه مع نهجهم وهندسة مراتبه وفق سلّم هذا السلوك.
والذين يتمنون أن يكونوا حسينيين ثم لايتحملون مسؤولية دعواهم وإستحقاقات ولائهم، فإنهم إنما يخادعون أنفسهم وهم الذين يمقتهم الله سبحانه حيث يقول:

﴿ ياأيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لاتفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لاتفعلون

نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أتباع السبط الشهيد يوم أخلص العبودية لله، ويوم إنتصر لدين الله، ويوم إستُشهِد في سبيل الله وسعى إلى ربه راضيا مرضيا.. إنه سميع الدعاء.


محمد تقي المدرسي
18/12/1425 هـ