مساحات السؤال الشارد ...

عقيلة آل حريز *
 
ليس عن الحروب نحكي ، لكنا نحكي عن افتعالها في أوقات السلام .. فالبعض منا للأسف لا يحيا بلا حرب لأنه اعتاد أن يكتسح الفضاء بتمشيط الجراح الغائرة حتى لا تتراخى عن النزف ..
إذا كان صراخ الموت والحياة لا يردعاننا عن غينا ، فما الذي سيردع !، وإن كان المرض بكافة أشكاله لا يسدل الستار على تلظي نيران الحقد في مخابئنا، فما الذي سيفعل عندما نمارس الغواية ونتمدد في مساحاتها فنُنصب فيها منصة نعلوها بأدخنتنا المغبرة !!.
 
إن كنا نعول على أرضياتنا الخيَّرة فلا نجدها تخدمنا حين تحرثنا مصائب الحياة ومرارتها ، فما الداعي للإدعاء أن أنفسنا لازالت خيَّرة وجذورها طيبة .. إن كانت الحقائق عمياء لا تبصر طريقها حين تطرق عقولنا ، فلم نعول عليها في مساحات السؤال لنرغم أنفسنا على تقصي المرارة !...
وإن آمنا بأنا كائنات هشة لا حول لنا ولا قوة فلم نتجبر ونتسلط على رقاب العباد .. لم نغني بصوت أو صوتين في مساحات العدم ، ونختار لغنائنا رصيفاً نقف عليه في ملحمة شبه أسطورية .
 
ليس عن الحروب نحكي .. فحروب البشر لها جسارة على الإنسانية والدين والعرف .. تتمدد فينا كقطارات عداء سريعة تحرق الأرصفة والواقفين عليها وتصبغهم بسواد أدخنتها المتعالية ..
نتحدث عن حروب مستعرة في النفوس .. تتأجج تأجج سافر لا يستحي أن يظهر للعلن ولا يخجل من الاندساس بين صفوف المطالبات بتواتر طويل كمأزق لموت صامت . فعندنا من الخير صداع ، ومن يقظة الضمير حساسية ، ومن كلمة الحق مغص مزمن ، حتى تمتد المسافة في رحلة دخان أسود يحتوي مساحات أسئلة شائكة بلا نهاية ...
 
ولأنه علينا أن نجاهر ونحكي فستغدو أهوائنا في مأزق لأننا سنرسم خطوطا ومواقف كثيرة لنلعب بها لعبة "الغميضة" ، كصور قديمة منثورة في ظلام حجج واهية، نراهن فيها على الفوز والخسارة معا .. حتى لا يبقى للجوعى فتات خبز يلتفوا حوله ويتحلقوا .
 
عن عشرة وألفة نحكي ، ومائدة واحدة جمهرتنا حولها.. وسنوات عمر متصلة أو منفصلة غادرناها على عجل فبعناها عند أول محطة اختبار مقلوب المزاج بدون أن يخيرنا أحد فيها ، لنقف على مفترق تشوهات الحياة .. عن عهود ومواثيق جرعنا اسم الله بها فنكثناها سعياً وراء حطام الدنيا واحتفاء بولادة طارئة .. عن اسم الأخوة والصحبة معاً .. وترافق الأضواء حول هالاتها .. قتلناها غيلة بخبثنا وسواد  نوايانا ، بحثا عن انتشاء لا مبرر له لنسقط عليه متاعبنا .. عن حناجر بحت واكتوت من ألم عدو طويل ، وصراخ مستعر وأقدام تورمت لكثرة ما جرت ركضا وراء سلطة هزَّ الكراسي فاقتحمت أولى حلقات المبادرات لتتسم بالخيانة .
 
في الحديث عن الخير والأخلاقيات صرنا نتسول مفردات لا نؤمن بها .. لأننا نسمع أصوات الداخل تهمس مرتبكة فنهرب منها بآدمية مشوهة المعالم لا تعكس حقيقة ما نعرف .  فحتى المواربات أصبحت قصيرة جدا لتغسل ثقل الليل في مدينة لا تعرف الفضائل ، نستمر هكذا لنصل متأخرين جداً فترمينا الروح في برزخ يعج بالشرود داخلنا ويضيع فهم مجريات ما يحدث !!
أيحتاج المرء منا كل يوم أن يتهجى الموت والمرض والفقر والمصيبة بكل أشكالها وبصوت عالي لعلها تردعه فتربكه الأحداث اللافتة فيها بشكل مكثف دون الاهتمام بكثرة انصراف الموتى عنا وشكل الدمار والإنهاك في روحه ..! , وكل ما يمكنه أن يفعله هو أن يمارس روتين قديم اعتاده وهو يصغي للشياطين التي استأنس بها  لتصفق بجناحيها في روحه ..
 
من اللافت هو كثرة المشاحنات بحياتنا حتى افتتنا بها، وأصبح التفاوض معها أمر غير ممكن فقد عبرت الريح قلوبنا وامتلأت بالضجر .. وأصبحنا نجمع الشتات بصمت مطبق ، بينما الخلل يعلو صدورنا المنهكة فتأبى أن تصور الفضائل بغير مزيج من تعفن الحلم والواقع معاً، فتحولها إلى كابوس قديم يغرق مزاجها في صخب عالي ليتلف الروح بعمق أكثر يستحيل الاستمرار فيه كل مرة .
كاتبة وقاصة (سعودية )