الأُنس بالسماء

عقيلة آل حريز *

لا يزال يتحرك حولها يستكشف المكان مجدداً .. تتأمل أغواراً عميقة تطل من عينيه فتدرك تماماً كم هي متسعة . للتو عاد من مضارب بني سعد ، وللتو بدأت تستقر معه .. تقلب نظرها للسماء ، فتجد أن بقلب الغيوم أمل يلوح لهم، عليها أن تحمل الصغير لأباه .. عليه أن يراه ، لقد تركه ومضى ، لم يتسنى له رؤيته حتى ..

 

 ها هو ابنها يخرج يطلب شيء من النسيم بالخارج ، هي تؤمن أن ما حدث أمر أعدته لهما السماء، إنه يوشك أن يفهم الحياة، سيبلغ وسيكون رجلا تفتخر به كأباه .

وصلت له وهو يلعب ، قالت له وهي تتأمل سجاياه الحسنة :

- أُحبك يا محمد ، ومستعدة أن أمنحك أنفاسي وروحي فقط لأرى السعادة تداعب وجهك، لست أطيق الضجر على محياك فابتسم .

تبسم في وجهها متجاوبا كأنه فهم ما تفكر فيه :

- متى سنزور قبر أبي ، وعدتني أن تحمليني إليه قريباً.

ضحكت له بحنان وقالت :

- اشتقت لوالدك يا حبيبي ، ستزوره لتسلم عليه

واستطردت وهي تتابع حركة الغيوم مجدداً ثم همست لنفسها ، هو أيضاً مشتاق لك ، مشتاق لك جداً، كن مستعدا سنرحل له يوم غد .

 تركته ومضت إلى أم أيمن تجهز معها للرحلة وترتب ما يحتاجونه فيها ، كانت الرحلة طويلة ، لكنها كانت فرصة لتحدثه فيها عن والده "عبد الله" وعن حكاية زواجها به ، حكاية تفاصيلها تشبه الحلم الجميل الذي تمنت لو طال أكثر ، وكأن صمت الصحراء خلفية تهيء إستحضار الشخوص الغائبة فترسل عبق ذكراهم مع الريح المارة بقربهم تجمعها وتبسطها بحسب انحسارها وصفيرها ..

 حدثته عن قصة الفيل وأبرهة ، وعن حفر البئر، عن قصة جده عبد المطلب وعن الأولاد العشرة الذين تمناهم ، وعن النذر الذي كان عليه أن يوفيه وعن القصص التي شغلت بيوتات مكة بغرابة هذه الحكاية، حكاية الإبل والقداح والإفتداء ونجاة والده من الذبح  بأمر يشبه المعجزة .. لا، بل هو معجزة من السماء ليواصل الحياة فيأتي هو خلفاً له ..

حين أحست انه يصغي إليها بشوق ، أكملت سردها عن قصة النور الذي خرج منها حين ولدته .. وراحت تصوغ له أحلامها وتعلقها بأمنياتها فيه وكيف يمكن أن يمتلئ الفضاء بالنور حين تقضي السماء أمرها ..

 كان كلامها حديثاً متواصلا عذباً يقطعه أحياناً صمت غارق في التأمل .. تعود بعدها لتخبره عن عرس قصير رحل والده عنه سريعاً في تجارة ليثرب ، تاركاً خلفه عروسه الجديدة ، غاب قبل أن يدرك وجوده .. لكنها تعود وتؤكد له أن الجميع يحبه لأنه فتى مختلف وسيكون له شأن مع السماء ..

 فترة صمت مرت عليهما غيبت حديثها عنه فتلاشى من خاطره وقع الزمان والمكان وأحس أنه لم يمنعها من الإسترسال غير دموع جاهدت في حبسها عنه ، لكنه لمحها تفر منها خلسة ...

 استغرقت الرحلة وقتا ، زار فيها قبر والده الذي اشتاق للوقوف عليه ، وتعرف فيها إلى أخوال والده .. كما رأى فيها كيف تصبح ملامح والدته قريبة من ذكرى أباه .. شعر بهذا الحنو الفائض من قلبها ، رغم أنها كانت تبكيه كلما جلست بقرب قبره .. كانت تعيش أجوائه لدرجة أنه أحس أن تلك اللحظات القصيرة التي عاشتها معه أستغرقت عمراً بأكمله وليست مدة قصيرة كانت قبل عمره وشهور حملها به ..

ها هي الشمس تزداد حرارتها .. مد لها يده فهو يشفق عليها من المرض ، فتعب الرحلة لازال يرهق جسمها الهزيل ، ويخشى عليها منها .

 عاد واجتاز معها مسافة أخرى ليعودان لمكة موطنه وموطنها ووالده ، وموجة الحر تقترب منهما .. توقفت معه في "الأبواء" وأحست أن الموت يقترب منها .. خشيت عليه ، أرادت أن تبصره بحقائق الحياة .. لعل الرحلة لم تكن كافية ولا المدة كانت طويلة .. لكن هذا ما استطاعته "آمنة ".. ماتت أمه، ومن قبلها والده، ولكن كثيرا من الناس مات أهلهم ورعاهم الله الذي يؤمنون به، هذا ما قالته ام ايمن وهي تضمه إليها .. لأول مرة يدرك معنى اليتم وقسوته  ..

 وبرغم ما مر به من زمن و توالت عليه من أحداث، لكنه ظل يفيق على أمل ، إلا أنه لم ينسى ذكراها ، كما بقي الوضع حوله متقلبا ، وكان هو ينمو وينضج ، ويحاول جاهدا الخروج بنفسه من مأزق المتناقضات في رحلة صمت وتأمل وانقطاع عن عبث الحياة .. لهذا واصل البحث عن روحه حتى وجدها في الأنس بالسماء ...

 

كاتبة وقاصة (سعودية )