جرح ينزف في قلب زينب ..

عقيلة آل حريز *

 في حجره كانت جالسة .. تتعلق بأغصان الحنان من خلال أنفاسه المتراسلة  .. وفي عينيه تسبح بنظراتها الواسعة، فتطلع على نوافذ الحياة وسحرها من خلاله ..

-     بنية قولي : (واحد)

-     (واحد )

-     قولي : (اثنين)

-     لا أقدر ...

-      .. لم لا تقدرين ؟...

-     أبة ... اللسان اللذي يقول واحد لا يقول اثنين .

قبلها أبوها وضمها إلى صدره .

 

                                                                                               "ملامح من ذاكرة تبرق بالضوء "

 

" ابة .... أبة .. أين ترحل وتتركنا ؟....  "

 

تذرع خطوات الحزن مجيئة وذهاباً .. تطوف بهامة مصبوغة بالدم .. تقدم البكاء قربانا متجسداً بخيبة الفقد .. تلف حزنها حول باقي أنفاسه الخافتة فتحرقها كل أوجاعه .. تقرأ الحياة صغيرة كما هي في عينيه ، تافهة كما وجدتها في خاتمة رحيله .. رأته يبتسم بالرغم من آلامه التي لم تبرد وهو يزفرها مغادراً بعد انتصاره عليها، كأنه يدرك أنه في سفر يقضم أطراف ليله ليستعجل رحلته بشوق .

 

في هذه الليلة فقدت "زينب" والدها، كانت حادثة فقده امتداد لضياع جسور الحنان والشوق بداخلها .. لحكاية تنسج الشعور بالطمأنينة والأمان .. فأين يمكن أن يطوف بها الفكر بعد أن اتجهت خطواته بعيدا عنها .. وكيف يمكن أن يعاد نسج الضوء بعد أن بعثرته سيوف الغدر بلا رحمة ..

 كانت تتعلق بركابه منذ الصغر، تفرش سجادته وتهيئ وضوءه هو من علمها أن تقبل القليل بأقدارها .. هو من عرفها أن تمنح النفس أسباب الصبر حتى تنفلت المواجع أو تنحدر لمنحنى آخر فتفر منها هاربة .. هو من مهد أرض الشوك فذللها بزهور الإيمان لتتفتح في وجه المحن ... هو من لقنها الفصحاحة حتى نكست رؤوس الظلم وهدمت صوامعهم رغم تكلسات الأيام وخياناتها المستمرة ، و تزاحم حقب الغدر التي نالتهم فقصمت الظهر وأنهكت القدرة .... 

 لا حق للحياة أن تتمادى معها في كيل المزيد من الحزن فمصابها به أعظم مصاب .. لا حق للمصائب أن تتجاسر عليها فرزءها من بعده، رزء ما بعده رزء .. أهناك ما هو أشد من رحيله عنهم .. لم يعد في الحياة ما ترجوه من خير ... أصبحت تعلم يقينا أن الأمر باب ستدخله بثقلها  وحجم مصابها عندما تعجز الحياة نفسها عن منحها مؤشرات التجاهل والإستمرار .. صارت الفاجعة تقودها إلى التفكير بالنهايات الضجرة التي تختصر السعادة وتقتل الفرح .. ترنو إليه يتقلب في ألمه ويستكمل صلاته  .. أصبحت تدرك أن ما يمنحها صمام الأمان هو أنفاسه المتقدة معهم ، وإن انطفأت أنفاسه ستنقلب عليهم الدنيا المتربصة بهم لتغدر وتكفر وتفجر ... تراوغ الحزن بمراقبته لتستبقيه أطول وقت ممكن ، بينما صوت قلبها يحرس أنينه .. يتسلل إليها الخوف مجدداً من قناديل معلقة تهزها الريح كلما طرقتهم، فتباغتها بكابوس الرحيل ..

  •  " أين سيرحل أبي .. أين سيغيب عني .." ..

 صوت من الداخل يتكاثف في زخم سواد الليل ووحشته يلح عليها بالسؤال ، هو ذات السؤال الذي يتحدى خطأ التوقعات فيتجاوز كل فروض الواقع والممكن .. كانت تسأل عنه أخويها وهي تمسك بكفيه تتحسس جسده المسجى .. تتابع تراخي أنفاسه الأخيرة ، تفرك عينيها من الإسترسال بدموع منهمرة بحرقة فلا تحسن التوقف ..

 تنبه لها .. حثها على أن لا تبكيه ، طمأنها عنه .. تعلق بالسماء، قلب طرفه فيها، كأنه يراها تنشق ليخرج منها حبيبه محمد ، يناديه بالإسراع ، فيأوي إليه بجهده ويستريح على صدره من كل الذئاب التي أخذت تتقاتل على سلطان الملك في أطراف الأرض فغدت تصطاد أكاذيب مواربة تقترف بها الجدال وتتحين الفرص لتمكر حيث تسود رقاب البلاد والعباد بظلم فادح ..

  أمسك بيد العباس وضعها في يد زينب .. وأوصاه بها خيراً .. قال له : هي أمانتك فاحرسها، واحرص أن لا تهان ولا تضام في وجودك ، فطوال حياتها كانت عندي مصانة .. كان يفعل هذا ويخبرها بأسرار القدر ليمنحها مبررات البقاء بعده .. ويضعها على خط الرسالة .. لقد أعدها لتكون شريكة الحسين في ملحمته ... اختارها لأنها تعرفه حقاً، وتعرف كيف ستبلغ رسالته .. ستحكي للناس عنه كأب وحامي، وقائد وشجاع ووصي رسالة وخليفة لله في أرضه .. ستترجم كل شجاعته وصلواته ومنطقه بقنديلها الذي ستحمله يوم كربلاء .. ستخبرهم عن نهج حبيب المصطفى والقرآن الناطق، ستدلهم على العروة الوثقى و النبأ العظيم .. وستروي عنه كما روت عن أمها فاطمة في فدك .. ستنطق بلسانه فتُسكت الجهل وتخرس الباطل وتكسر أنفه .. ستُفوه ببلاغته فيجفل الظالمين بفصاحة منطقها .. ستلملم الصغار والنساء حولها تظلل عليهم كشجرة وارفة .. لن يجعلها الحزن تطيل المكوث  داخل المنحدرات لتنتهي بالشقاء ، ستجتاز عتبة البؤس بروحه التي تتقد بداخلها وبوصية منه أسرّها لها ..

نابتة في شق الحياة تمشي في إطار ظله، تحملت أعباء الفقد منذ عمر صغيرة .. حين رحل عنها أباها خلف وحشة في الأرض لم تسكن  أنّتها حتى اليوم  .. هو الأب والحامي والناصر ، ولم يكن كأي أب ، هو صاحب المواقف وشجاعة القلب والمواجهات الصعبة ، فبسيفه سل الباطل .. هو كافل الأيتام وحافر الآبار في الأرض وساقي العطاشى ومطعم الجوعى وعابري السبيل .

أيها الأيتام تحسسوا بطونكم وناموا على جوعكم، فغدا لن تجدوا الخبز والماء .. فقد غادركم أباكم ... فعدتم للضياع بعده ... يا طرقات الكوفة اشهدي على خطواته سالك درب الفقراء في ظلك .. يا سواد الليل أما كنت تشهد حركة صلاته وهمهمات بكائه فيك ، اهجع الآن فقد هجعت أنفاسه المثقلة بالوجع .. يا ثرى الأرض تودعي من ساعات سجوده على تربك في جوف الليل .. ويا نبت نما من سره، اكشف عن عمق ما كان يكتم من ألم حين نكتك بهمه ...

  •  " أبة ، يا أبة .. إلى أين ترحل وتتركنا نتسربل باليتم والضياع من بعدك  .. قل للحياة تكف عنَّا ... فقد قرحتنا بالوجع ... "

 بدت الدنيا منكسرة تطأطأ رأسها حوله متمدداً يستعد للرحيل ، هذه الدنيا التي ما أفلحت في استمالته .. هي من قال عنها  " إليك عني ، غري غيري، فقد طلقتك ثلاثاً، لارجعة لي فيك .." .... هو فاز بالجنة وبهذا الفوز الذي ناله  أقسم به في صلاته حين باغته شر البرية ، لقد باشر نزله في منازل الخلد   وتعرف إلى مكانته ..

  أشقاها يا أشقاها ... يا أجهل الخلق بضمير الأمة .. يابن ملجم .. يا لعين السماء والأرض ليوم الدين  .. أوتعرف من علي .. أوتعرف ما فضل علي لتتجاسر عليه في صلاته .. انه امتداد لرسالة السماء ، انه ابن عم المصطفى .. سيف الله المسلول .. انه سورة هل أتى وآية المباهلة والتصدق بالخاتم ، به نزل ختم  إكتمال الدين وتمام النعمة  وإرتضاء الإسلام دينا .. شلّت يدك .. ليت الأيام عقُمت قبل أن تخُلَق وترتكب فعلتك الشنيعة فتهتز الأرض وتتساقط أضواء النجوم ...

  انكبت زينب عليه وأخواتها يقبلنه ويلثمنه .. فأخبرها " بنية، لا تبكي ، شاء الله أن يراني قتيلاً ...."  ثأر العالم غير ثأرها فقد بدأت تذرع رحلة الحزن طويلة، طويلة  حين اغتيل ضوء الحق، فانشق القمر واحمرت السماء وتهاوت النجوم ، وبقي رحيله جرح ينزف في قلب زينب ... 

 

كاتبة وقاصة (سعودية )