الساسة و رجال الدين ... رجال القداسة و رجال الأخطاء

حسين أحمد بزبوز *

 إذا صح القول أن لكل إنسان خطيئة - وهو قول كما يبدوا منطقيا صحيح - ( و اقتباسٌ من قوله : "كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون" )، إذاً يصح القول أن لكل منا خطاياه بحسب موقعيته و مركزه في هذه الحياة - وهو الأمر الذي نحب أن نتأمله جيدا في هذا المقال - : فللخطيب خطيئته و للرسام خطيئة و للممثل خطيئة و للجزار خطيئة و للمعلم خطيئة و للمهندس خطيئة و للطبيب خطيئة و للفقير خطيئة و للثري خطيئة و للعبد خطيئة و للسيد خطيئة ...، كما أن للحاكم خطيئته أيضا و للمحكوم خطيئة. وهكذا تتتابع سلسلة الخطايا، بينما تتفاوت من جهة أخرى في الحجم و المقدار.

 ما ورد سابقا لا يشكل طبعا كشفا علميا، و لا فضحا لخطوط خفية من ملامح غائبة في حياتنا اليومية، فكل هذا معروف بوضوح. لكن هذا لا يعني أيضا أننا جميعا واعون تماما لجميع هذه الأمور و ما تتطلبه منا من نضج في الحكم على الأمور. فما يعيشه رجال الدين من صراع حقيقي مع السياسة يمنعهم من النفاذ لممارسة دور سياسي حقيقي، كما و يمنعهم أيضا من التعاطي المنطقي مع رجال السياسة، و يدفعهم كذلك لتثقيف الناس باتجاه نبذ الساسة و السياسة و القرار السياسي و نبذ كل من تسول له نفسه من رجال الدين أو غيرهم أن يلتحق بعالم السياسة ... كل ذلك يرجع في أصله في جزء منه أقلا لـ (وهم) ما يمكن أن أسميه بـــ: (تنزه رجال الدين) ... أو (الطهر المزيف) ... أو (الطهر الرجعي) ... أو (الثياب الملائكية الزائفة) ... أو (الأخلاق الفاضلة السلبية) ... أو (العدالة الحمقاء) ... أو (الطهر الغبي)، فكل تلك الأسماء قد تشي لنا بسر تخلف (بعض رجال الدين) الذين يمارسون ... (طهر الانزواء) في واحة السياسة الغنية بالأخطاء.

 إن طبيعة دور رجل الدين التي تقتضي أن يمارس الفضيلة و أن يدعوا لها، و أن يعطي صورة رمزية تجسد تلك الفضيلة، منها جاء التناقض بين دور رجل الدين (بالمفهوم السلبي طبعا و غير المكتمل) و دور السياسة و الساسة. و من الطبيعي طبعا أن نتساءل هنا: لماذا يحدث هذا؟؟؟!!!.

 في الحقيقة إن ممارسة السياسة تعني القيام بدور قيادي مؤثر على مستوى الأمة و المجتمع يفوق دور بقية أفراد الأمة في بقية المواقع الأخرى، وهذا الدور الكبير يقتضي طبعا أخطاء أكبر و أفدح و آثام أعظم و أخطر من أخطاء و آثام بقية الناس. فأخطاء الفلاح أصغر، و أخطاء الراعي أبسط، و أخطاء إمام الصلاة أقل. أما أخطاء الزعيم أو السياسي فهي الخطر الأكبر، حين نغفل طبعا الدور العظيم و الفوائد الكبرى التي ينجزها الزعيم و القائد السياسي - فالحاكم ضرورة و إن استبد، وهذا طبعا ليس لتبرير أخطاء الحكام - . فالأخطاء هنا متعلقة بأرواح الناس و دمائهم و أعراضهم و أموالهم و حاضرهم و مستقبلهم. فالعشرات من الناس، بل المئات و الآلاف، بل الملايين و البلايين منهم ستتأثر بقوة بتلك القرارات التي يتخذها القائد السياسي.

 من هنا كان الشيعة يعتقدون فيما مضى من العصور التي مضت، أن كل حكومة تقوم قبل حكومة الإمام المهدي(عج) فهي حكومة ضلال. و ربما لازال البعض منهم يعتقد هذا الاعتقاد. فهنا قام البعض بتسليط عدسة التكبير على أخطاء السياسة لتضخيمها بغية إبرازها (كشر مطلق) لا يمكن أن يحدث في ظروف العدل و الإرادة الخيرة للحكومات. فتم تنفير الشيعة (أو قطاع كبير من المتدينين منهم خصوصا) من التطلع للحكم، أو القبول بالمشاركة السياسية. لذا فقد كان من الطبيعي بعد هذا النفور اللجوء للقول بعصمة روح الله الإمام الخميني (قدس سره)، بغية الخروج طبعا من مأزق (إمكانية تعلق رجل الدين كغيره من الناس بآثام السياسة و الوقوع في أخطائها). ثم تم عبور المرحلة بعد ذلك الاقتحام الكبير الذي حققه آية الله، ليخف العداء نوعا ما تجاه ممارسة الدور السياسي (المستقل) من قبل رجال الدين. لكن، ماذا عن ممارسة السياسة في ظل الحكومات الظالمة، أو الحكومات غير الشرعية، أو الحكومات غير المرضي جماهيريا عنها؟؟؟!!!!.

  طبعا بقي الجو الديني مكهربا و معاديا للممارسة السياسة في أجوائها حتى اليوم. و لم تشهد الساحة الدينية كما يبدوا نضجا واسعا و انقلابا نوعيا يذكر. و ظل قطاع عريض من رجال الدين و من المتدينين (المثقفين منهم و العوام) حتى وقت متأخر، غير راضين عن انخراط رجال الدين أو سواهم من أفراد المجتمع الشيعي تحت قبة القرارات السياسية في حكومات لا تقر رؤيتهم الدينية (بحذافيرها). غير أن القضية في الساحة العراقية مؤخرا، و ما يجري من تفاعلات في الساحة اللبنانية أيضا، بالإضافة لبقية الاختراقات الشيعية لهذه الحالة في دول أخرى في هذا العالم، قد تكون لها جميعا انعكاسات مستقبلية و حاضرة فاعلة في هذا الميدان، قد تغير نظرة الشيعة للسياسة و للمشاركة السياسية في (مختلف أنظمة الحكم) عبر هذا العالم في وقت قريب. هذا وقد تعلق حديثنا هنا بالمسلمين الشيعة دون سواهم طبعا، و ربما يمكن أن يجر القول بطريقة مشابهة للحديث عن الحالة الدينية السنية و مواقفها المرتبكة إزاء السياسة.

 إن القضية السياسية عند كثير من المتدينين هي في مفصلها قضية (إبراء للذمة) كما يتصورون، لا أكثر و لا أقل. فهي ليست قضية (إصلاح واقع)، يجب التعامل معه و مع معطياته و شروطه المفروضة واقعا على الجميع كما هي، بحيث لا يمكن واقعا فرض كافة املاءاتنا و تصوراتنا على الواقع بتجاهل كافة تعقيداته. أما لدى المتدين السطحي فكثيرا ما تجد القضية السياسية عنده تنطلق من الحماقة العمياء و الغطرسة بلا مبرر. فتجده واضعا غالبا إملاءته في المقدمة، و كافة مصالح أبناء المجتمع خلف ظهره و في أخر القائمة. فتجده متعلقا بإبراء الذمة، مكتفيا بالتكرار بغباء: "إن الحكم إلا لله"، و كأن الله لا تهمه مصالح العباد.

 إن بقاء التدين رهن هذه العقدة الساذجة أفسح و لازال يفسح المجال بلا شك لتفريغ ساحة السياسة من كثير من الخيرين من المتدينين. كما دفع و لازال يدفع بلا شك لخلق تشنجات كثيرة بين المؤمنين المنادين بالعدالة و القيم الإنسانية النبيلة (من منطلقات دينية) من جهة، و بين ساسة و رجال قرار من جهة أخرى يشاركونهم بعض أو كل تلك الهموم الأخلاقية و الإنسانية، لكن (من منطلقات دينية مخالفة) أو (من منطلقات أخرى لا دينية).

 إن المترصدين للمناصب من ذوي الأهواء و الشهوات و المنحرفين نفسيا و سلوكيا - وهم موجودون بلا شك في كل زمان و كل مكان، حتى في الأوساط الدينية -، مشبعون طبعا بالسرور من حالة الجهل في الأوساط الدينية. مرتاحون من غباء التدين الذي يمارسه البعض. راضون عن سخط المتدينين على السياسة، و تعاملهم معها بسطحية من باب إبراء الذمة أمام الله سبحانه.

إن ذلك الوهم المخيم في رؤوس البعض، جعل المتدينين ناسين أو متناسين أن المشاركة في دور سياسي، إنما هو (واجب شرعي) يجب القيام به و عدم التفريط فيه، لما فيه من ضرورة، بما ينتج عنه من مصالح كبرى للعباد، و إحقاق للحق، و إضعاف للباطل. أما (الأخطاء البشرية) فهي من مكونات الإنسان التي لا يمكن الفكاك عنها في كافة المواقع. و وقوعها في عالم السياسة بنسبة ما، إنما هو تحصيل حاصل، سواء كان الحاكم رجل دين، أو رجل سوء و العياذ بالله.

 إن السياسة تعني أن تملك قرار الحرب و السلم معا. و أن تكون قادرا (مثلا)، على صرف جزء من ميزانية وزارة الصحة (التي قد تنقذ به أرواح بعض المرضى)، ليصب في صالح وزارة الطرق و المواصلات (التي قد تؤمن به الطرق، فتنقذ به أرواح بعض مرتاديها أيضا)، أو العكس. و أن تملك قرار قمع مظاهرة جماهيرية تطلقها جموع تعي أو لا تعي مصالح بلادها، أو تتجاهل تلك المظاهرة، فتوقع البلد في الويلات، أو قد تضمن لها بذلك بعض الخيرات. و في كل تلك الخيارات المتعددة: يمكن أن يكون قرارك هو القرار الخطأ، أو الصواب. و يمكن أن تصيب غير الحق، أو الحق. و يمكن أن يقع بقرارك الخير، أو يقع: الضحايا من الأبرياء، و تسفك الدماء، و تهتك الأعراض، و تسرق الأموال.

فهل رجال الدين (بما يحمله البعض منهم من مفهوم مغلوط عن الطهر في عالم السياسة) مستعدون للخوض في معمعة السياسة هذه، أو حث الجماهير على الخوض فيها، رغم علمهم بكل ما فيها من إشكالات؟؟!!. أم يبقى (بعض رجال الدين) على حالهم من التنزه عن الدخول في معضلاتها و مآزقها، مفضلين الصوم في الكهوف، و التسبيح في زوايا المساجد و الحسينيات، و الخطابة في أزقة الأحياء - لبث ثقافة الانزواء- ، ثم التدثر بعدها في ثياب ملائكية بيضاء، لا تدنسها السياسة بدمائها الحمراء، ظنا منهم أنهم قد أحسنوا صنعا للناس، ثم الفوز بعدها بالزعامة في قلوب و على رقاب الناس؟؟؟!!!!.