القرآن لم يفسر بعد

أ . بدر الشبيب *

المطالع للمكتبة التفسيرية التي أنتجها المفسرون على مر القرون يخرج بنتيجة مفادها أن تلك الجهود الكبيرة المشكورة لم تزل حتى الآن قاصرة عن مواكبة الإفاضات القرآنية في شتى المجالات، وذلك  يعود للأسباب التالية:

الأول: عظمة القرآن الكريم، كونه كلام الله عز وجل والمعجزة الخالدة لخاتم الأنبياء

الثاني: غياب الجهود العلمائية الجمعية التفسيرية؛ حيث إن التفاسير التي بين أيدينا هي – في الغالب الأعم – نتاجات فردية لعلماء الدين، والنتاج الفردي – بالغا ما بلغ – لا يمكنه أن يحيط بالجوانب القرآنية المختلفة، كما أنه يكون مطبوعا في النهاية بطابع المفسر من أدبي وكلامي وفلسفي وعرفاني واجتماعي وفقهي وروائي وغير ذلك.

الثالث: عدم إدخال تفسير القرآن في المرحلة العليا في الحوزات العلمية (البحث الخارج )، جنبا إلى جنب مع الفقه والأصول.
إن معارف القرآن الكريم من السعة والشمول والعمق بحيث تحتاج الآية الواحدة منه إلى عدة مفسرين، فإذا وصلت احتمالات تفسير آية واحدة بحسب اختلاف التفاسير في كل جزء منها إلى ما يقرب من مليون و 260 ألف احتمال ، ومن هنا فإن القرآن يحتاج تفسيره إلى مجموعة متكاملة من العلماء الأفذاذ المتخصصين في كل شؤون الحياة الفقهية والعلمية والأدبية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتاريخية ...الخ.

فالفقيه واللغوي والأديب والطبيب والفلكي والمؤرخ والفيلسوف وعالم النفس وعالم الاجتماع وعالم الانثروبولوجيا والعرفاني والمتكلم والتربوي وغيرهم، كل سيغرف من منهل القرآن العذب ليقدم لنا في ضوء علمه واختصاصه ما ينير حقيقة من حقائق القرآن، وهذا سيجعلنا نتفاعل مع القرآن بشكل أعمق، ويمكننا من إيصال تلك المعارف إلى العالم ليتعرفوا على معجزة نبينا (ص ).

مما لا شك فيه أن المحذور الوارد هنا هو التفسير بالرأي، وهو ما حذرت منه الروايات المستفيضة عن أهل البيت ، ولكن يمكن تجاوز هذا المحذور إذا تم هذا العمل بإشراف نخبة من العلماء الربانيين.

وقد يناقش البعض بأن بإمكان علماء الدين وحدهم تفسير القرآن الكريم، والجواب على ذلك هو الوجدان، فنظرة على كل التفاسير التي بين أيدينا تعطينا أصدق دليل على عدم الإمكان الواقعي. صحيح أن تلك التفاسير أوضحت لنا الكثير من معارف القرآن، وكشفت جوانب من إعجازه، وبينت بعض غوامضه، إلا أنها في المقابل لم تحقق بمجموعها ما كان يمكن أن نستخرجه من كشوفات قرآنية لو تم العمل بشكل جمعي مؤسسي.

  • وحتى نضع بعض النقاط على بعض الحروف سأضرب بعض الأمثلة:

المثال الأول: في تفسير قوله تعالى  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) سورة البقرة
اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى ( راعنا )، ولسنا بصدد ذكر مختلف آرائهم، ولكننا نشير هنا فقط إلى ما كشف عنه أحد المتخصصين في اللغة العبرية، وهو الفقيه الكبير الشيخ محمد جواد البلاغي (قده)، في تفسيره آلاء الرحمن، حيث يقول:

(و في تبيان الشيخ قال أبو جعفر يعني الباقر هذه الكلمة «يعني راعنا» سبّ بالعبرانية إليه كانوا يذهبون‏.
قال الحسين بن علي المغربي فبحثت عن ذلك أي عن السب الذي ذكره الباقر فوجدتهم يقولون راع على وزن قال بمعنى الفساد انتهى.

 أقول و قد تتبعت العهد القديم العبراني فوجدت إن كلمة «راع» بفتحة مشالة إلى الألف و تسمى عندهم «قامص» تكون بمعنى الشر أو القبيح. و من ذلك ما في الفصل الثاني و الثالث من السفر الأول من توراتهم و بمعنى الشرير واحد الأشرار. و من ذلك ما في الفصل الأول من السفر الخامس. و في الرابع و الستين و الثامن و السبعين من مزاميرهم. و في ترجمة الأناجيل بالعبرانية و «نا» ضمير المتكلم و في العبرانية تبدل ألفها واوا أو تمال إلى الواو فتكون راعنا في العبرانية بمعنى شريرنا و نحو ذلك).

وتعليقنا على هذا أن الشيخ البلاغي (قده) لأنه أتقن العبرية استطاع أن يكشف ما لم يكشفه الآخرون، وقد كان من المأمول أن يحدث تفسير الشيخ لو اكتمل نقلة نوعية كبيرة في علم التفسير، أولا لأنه فقيه موسوعي متبحر، وثانيا لمعرفته العميقة بالديانتين المسيحية واليهودية واطلاعه على تراثهما، ولكن للأسف عاجله الأجل قبل أن يكمل تفسير سورة النساء.

المثال الثاني: اختلاف المفسرين في الآيات التي تتحدث عن الوقائع والأحداث التاريخية، مما يعني الحاجة إلى البحث التاريخي المتخصص لكشف أسرار تلك الآيات، ومنها على سبيل المثال الآيات التي تحدثت عن ذي القرنين ويأجوج ومأجوج، وعن هاروت وماروت، وعن سليمان والجسد الذي ألقي على كرسيه، وعن قضاء الله لبني إسرائيل بالإفساد في الأرض مرتين، وغير ذلك الكثير.

المثال الثالث: الآيات التي تتحدث عن حقائق كونية، وظواهر علمية، وتحتاج إلى متخصصين في الفلك والجغرافيا والجيولوجيا وغيرها من العلوم حتى نستطيع أن نقترب من مراد الباري منها، ومن يطالع تفسير قوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) سورة الرعد، سيكتشف مدى اختلاف المفسرين في هذه الآية، وأنه كان عليهم الرجوع إلى المختصين في شؤون الأرض ليتعرفوا منهم على حقائق القرآن في هذه الآية الكريمة.

- سأكتفي بهذه الأمثلة الثلاثة بقصد إيضاح الفكرة، والأمثلة لمن أراد الاستزادة كثيرة.

إننا في الوقت الذي نتطلع فيه أن إلى ولادة هذا المشروع، نتطلع أيضا إلى إدخال التفسير في بحوث الخارج في كل الحوزات العلمية، لما في ذلك من إثراء حقيقي سيجعل مستقبل التفسير أكثر ديناميكية وحيوية. ولعل في التجربة التي بدأها الإمام الخوئي (قده )، والتي أنتجت كتابه القيم (البيان في تفسير القرآن )، ولكنها للأسف لم تتواصل، وكذلك تجربة الشيخ محمد هادي معرفت (ره ) والتي قطعتها وفاته، لعل في هاتين التجربتين مشجعا للآخرين ليحتل التفسير مكانته بين الدروس الحوزوية.

 

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام