العلاقة بين الإيدز و ثقافة بعض رجال الدين

حسين أحمد بزبوز *

 هذا عنوان استفزازي بالتأكيد ، فما العلاقة بين رجال الدين (حراس الفضيلة) و مرض الإيدز ، ذلك المرض الخبيث الذي يشير بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للفساد الأخلاقي و الانحطاط السلوكي و القيمي و الديني على السواء؟!.

 لكن ، قد تكون هذه حلقة أخرى من حلقات ذلك المسلسل الحداثي - كما قد يحلوا للبعض أن يسميه - ، و الذي بدء البعض يشاهده مؤخرا يطفوا على سطح المشهد الثقافي لمجتمعاتنا المحافظة عبر بعض : مواقع الإنترنت أو النشرات الثقافية أو البرامج الفضائية ، كبعض حلقات برنامج (وما يسطرون) الذي يعده الأستاذ الفاضل / حسن آل حمادة ، و يذاع عبر قناة الأنوار الفضائية المباركة ، حيث تناول فيه بعض الضيوف مؤخرا رجال الدين و بعض القضايا الدينية بالنقد و التشريح ، بشكل لا يتوافق مع نظرة بعض المتدينين من أصحاب القداسة الزائفة و تفسيراتهم لمعاني التعددية و الحرية الفكرية و الثقافية و الإعلامية في الإسلام ، فبات البرنامج في نظرهم خروجا عن جادة الصراط المستقيم.

 و لذا ، و لأن هؤلاء المقدسون لا يستمعون القول المخالف عادة ،أجد من اللازم علي أن أستبق الأمور لأقول لعزيزي القاريء مقدما: " إن كنت رجل دين شيعي فالموضوع لا يعنيك ، و إن كنت رجل دين سني فالموضوع أيضا لا يعنيك ، و إن كنت رجل دين مسيحي فالموضوع كذلك لا يعنيك ، و كذا إن كنت رجل دين يهودي أو مجوسي أو من أي دين أو مذهب أخر فهو على كل حال لا يعنيك ، إنه يعني رجل دين آخر يختلف عنك في الدين و المذهب و التوجهات ، فأرجوا أن يرضيك هذا التبرير".

 لكنك (يا من أخاطب) قد تستغرب ، بل حتما لا بد أنك تستغرب ما أقوله الآن ، فما هذا الكلام؟!: "هل هو تهريج؟!أم ماذا؟!" ، لكنني سأجيبك أيضا (بالتأكيد) : "فثق تماما أن الموضوع لا يعنيك ، فأنا لست بصدد إثارة عواطفك الدينية ، فذلك لن يفيد ، بالتأكيد".

 و أقول لك أنت أيها العامي المؤمن أيضا: "ثق أن الموضوع لا يعني شيخك الشيعي إن كنت متدينا شيعيا ، و لا يعني شيخك السني إن كنت متدينا سنيا ، و لا يعني ... إن كنت .... ، من أي مذهب أو دين آخر ، إنه يعني الآخر ذلك الذي يغيظك سلوكه و تفكيره".

 وأنا أيضا ، و باعتباري - أو كما يحلوا لي أن أكون - (متدينا) شيعيا معتدلا يؤمن بالتعدد و الحوار و التسامح و التكامل و التنافس الإيجابي بين بني البشر جميعا مهما اختلفت دياناتهم أو مذاهبهم أو مشاربهم ، فهذا الموضوع أيضا لا يعنيني ، و لا يعني شيخي الفاضل ، الذي أعتبره قدسا من الأقداس و شعلة نور وضاءة ستنقذ جميع البشر من كافة الآفات و الأمراض.

 وخلاصة القول بعد كل هذه المقدمة الطويلة العريضة الممطوطة ، أنني لا أريد أن أثير العواطف الدينية لديك عزيزي القاريء ، لأننا جميعا نحن بني البشر مهما اختلفت مشاربنا الدينية أو المذهبية نأنف  أنفة تامة أن يتهم رجال الدين المنتمين لنفس دائرة انتمائنا الروحي ، بأي تهمة تقدح في رجاحة عقولهم أو كمال تفكيرهم ، ثم من بعدهم فليذهب الجميع للجحيم ، و ليأتي عليهم جميعا الطوفان.  لذا فأنا هنا لا أريد صداما ، و لا أريد تهشيم عواطف ، إنما أتلمس الطريق لإثارة العقول ، و أبحث عن المفتاح الذي يمرر للبعض بعض النور ، فأرجوا من الله أن أكون قد وفقت في هذه المقدمة (للتربيت) على بعض الرؤوس علها تهدأ و تخشع و تستجيب لما فيه خير الجميع.

 وهنا نأتي لسبب طرح هذا الموضوع أصلا ، و العلاقة فيه بين ثقافة بعض رجال الدين و مرض الإيدز ، لنقارن بجدية تلك الجرثومة الخبيثة التي تنتشر بدفع قوي من الغرائز و الشهوات الجنسية غير المكبوحة ، و التي تفتك بالجسم المادي فالمعنوي من بعده ، بالجرثومة الثقافية الخبيثة التي يبثها بعض رجال الدين ، فتفتك بجسد الأمة المعنوي فالمادي من بعده ، بشكل مقلوب.

 إن المقارنة هنا تأتي من أن سر قوة مرض الإيدز - نفسه - الذي أتعب الأطباء ، و الذي يكمن في قدرة فيروس ذلك المرض الخبيث الكبيرة على خداع الجسم البشري و تضليل جهازه المناعي الطبيعي عبر التشبه بأجزاء منه و المناورة المستمرة في التخفي و التي تفقد الجهاز المناعي قدرته على تشخيص ذلك الجسم الغريب ، و التي ينتج عنها بالتالي استمرار الفيروس في التكاثر و التخفي و الفتك بالجهاز المناعي و تدمير قوى الجسم وصولا بذلك الجسم الى الهاوية السحيقة وهي الموت ، هو نفسه سر مرض الثقافة الدينية و موتها.

 إن نفس تلك العملية التي تتم داخل الجسم المادي للمصاب بفيروس الإيدز ، تتم أيضا خارج ذلك الجسم المادي ، لكن بشكل ثقافي عاطفي مزدوج في هذه الحالة ، فلقد فطر الله النفس البشرية على الإيمان و التدين ، فالنفس مشبعة بالعواطف الدينية ، و أعطانا العقل لنميز به الصواب من الخطأ ، في عملية مناعة فكرية ذاتية ضد الأفكار المريضة ، لذا كان من الطبيعي أن تؤهلنا عقولنا لنبذ كل ما هو خاطيء و كل ما خالف العقل و المنطق ، و بالتالي تتم حماية الثقافة و الفكر من أي جرثومة فكرية مؤذية تبث الدمار و الخراب ، فيتم بذلك حمايتنا من الأفكار الخاطئة و المريضة.

 لكن و للأسف ، فقد ابتليت الثقافة الدينية بجرثومة خبيثة شبيهة بفيروس الإيدز - و أنا لست أمزح هنا ، فلقد ابتليت المجتمعات البشرية منذ القدم (بإيدز ثقافي) - ، و استطاعت تلك الجرثومة الخبيثة أن تتغلغل في ذلك الجسد الثقافي الممتد عبر كيان الأمة ، متذرعة بالتلون بنفس لون و بنية الجسد الثقافي (لأي أمة من الأمم) الذي تغزوه أو تهاجمه ، مستفيدة من قوة الفطرة الدينية و متحصنة بحصنها ، و متقولبة في نفس قوالب الثقافة الدينية السائدة ، و لأنها أيضا دائما تحتمي داخل بنية القوالب اللغوية المطاطة (لأن اللغة دائما حمال أوجه) ، لذا بات باستطاعتها على الدوام التبدل و التلون و الهروب في اتجاهات جديدة تساعدها على حماية نفسها من قدرة العقل على التشخيص و النقد ، و حماية نفسها أيضا من تأثيرات الكشوفات و التطورات العلمية المستمرة ، ففقد العقل بذلك المناعة ضد جراثيم الثقافة الخبيثة ، فبالتشبه و التبدل و التلون و بالعواطف و اللغة المطاطة ، استطاعت ثقافة الخراب تلك أن تستمر ، و أن تتجاوز كافة حواجز مناعة العقول مهما علت أو ارتفعت ، لذا فلا غرابة أن تجد رجال دين مخطئين يضللون (عن قصد أو عن غير قصد) بروفسورات و دكاترة و مثقفين يحملون أعلى الشهادات ... ، أو على أقل تقدير لا غرابة أن تجد ثقافة دينية جائرة (كثقافة التكفير و الإرهاب و القتل و النهب و التسلط) تنتشر بقوة في أوساط الشرائح المتعلمة و المثقفة المعاصرة ، و السبب ؟!!! ، إيدز ثقافي خبيث استطاع أن يتسلل خفية للثقافة الدينية العامة و لعقول بعض رجال الدين و بعض المتدينين و رجال الفكر و الثقافة بشكل خفي ، فمر دون أن يشعر به أو يقاوم فتكه أحد من المؤمنين ، إلا القلة من المتدينين الواعين.

 إنه إيدز حقيقي إذا يا رجال الدين ، و يا شباب العالم ، و يا رجال الفكر و الثقافة و العلم ، وعاه و استوعبه قليلون ، و مر بخفة و رشاقة و شفافية تامة أمام كثير من عقول المتدينين الخيرين ، فحول المؤمنين الطيبين دعاة الفضيلة و الأخلاق ، الى وحوش ضارية و قتلة محترفين - و الشواهد كثيرة - ، و كل ذلك لأنه تلون بلون عواطفهم الدينية ، فاستطاع أن يتجاوز و يهدم كل مناعة عقلية لديهم ، لذا باءت كل الحقن الثقافية و الكلمات و الخطب و الصرخات التنويرية بالفشل الذريع ، لأنها وقعت أمام عدو خفي لا يمكن الإمساك به.

 وهنا نقول: "ما الحل إذا؟!" ، و الجواب قد يتشعب في عدة اتجاهات ، لكن أوضحها ربما:

1- التحصين الخارجي ، إنتاج لقاح: "أي جرثومة شبيهة بجرثومة المرض قادرة على كشف زيف تلك الجرثومة القاتلة أمام المناعة الطبيعية لعقولنا ، أو أقلا تقوية تلك المناعة الفطرية ، بحيث يتم تفعيل المناعة خارجيا بتدخل من الواعين".

2- التحصين الذاتي ، الاستجابة الداخلية: "أي أن يقبل الناس تلك التحذيرات و التشخيصات التي يعلن عنها بعض المثقفين باستمرار ، فيتعاملوا معها بجدية ليقوموا بعدها بأنفسهم (و دون تدخل خارجي) بالبحث عن العلاج لتفعيل دور العقل في مواجهة تلك الأفكار الظلامية (إيدز الثقافة ، إن صح التعبير) التي يبثها البعض و هم غافلون عنها و مستسلمون لها".

إن الإيدز بلا شك من الأمراض الجسدية المدمرة التي كبدت البشرية كثيرا من الخسائر الفادحة ، و الثقافة الدينية المغلوطة أيا كانت و لدى أي أمة و أي شعب ، قد تكون أشد دمارا و أقدر على التخفي من ذلك المرض الطبيعي الخطير ، لذا فالخطر الكبير الذي نواجهه ، يتوجب حذرا كبيرا أيضا ، و لن تجدي التحذيرات المستمرة ما لم نتجاوز حساسيتنا العاطفية و الدينية من التعاطي مع الفكر المخالف تعاطي جاد و مسؤول ، وهذه التحذيرات التي نطلقها ليست الأولى من نوعها ، لكنها لازالت تنطلق باستمرار من أفواه بعض المثقفين ، لأن مناعتنا من خطر التضليل المذكور لازالت شبه معدومة تقريبا ، و الحاجة للتحذير لازالت قائمة ، و نحن - من باب التنبيه هنا - لسنا دعاة نبذ للدين كما قد يتصور البعض خطأ ، إنما نحن دعاة نبذ لنبذة العقل الذي لا بد أن نستحضره دائما جنبا لجنب مع الدين ، لأنه لا كمال للدين بدون كمال العقل ، ونحن في النهاية نؤكد أننا نعول بشكل كبير على دور رجال الدين الواعين المخلصين في قيادة الأمة و العالم باتجاه قيم العدل و الرقي و الرفاه و التحضر ، و كلنا أمل في ظل التطورات المعرفية و الإعلامية المعاصرة ، أن تتسارع عجلة انتشار الوعي ، و نتمنى أن يكون رجال الدين هم من أوائل الممسكين بخيوط الوعي و قادة التنوير ، الذي نرجو أن يكون كافيا لتبديد سحب الظلام الكثيفة.

 كلمة ختام:
 
 عزيزي القاريء ، أرجوا أن تستوعب في نهاية المطاف ، أننا لسنا هنا بصدد تجريح رجال الدين ، لكن لاشك أن هناك (ثقافة دينية مغلوطة) تبرر القتل و الظلم و انتهاك الحقوق ، تشبهت (بالثقافة الدينية الصحيحة) ، فغدت بسبب التقديس الأعمى أداة هدم ، وساعد على ترويجها بعض رجال الدين ، بسبب الغفلة و التقديس الأعمى غالبا ، فقبلها بقية الناس بسبب قداستها الزائفة ، التي استطاعت أن تعطل حتى عقول كثير من المثقفين و المتعلمين ، لذا وجب الحذر و التمييز بين نوعين من الثقافة الدينية: النوع الأول منهما (يمر من خلال القلب) ليحكم قبضته في النهاية على توجهات العقل ، و النوع الثاني منهما (يمر من خلال العقل) ليحكم قبضته في النهاية على توجهات القلب ، و لا شك أن النوع الثاني هو الأقدر على الإصلاح و قيادة البشر نحو الهداية و الصراط المستقيم ، و نحن نريد من رجل الدين أن يرتقي لمستوى المسؤولية في تمييز الثقافة الدينية الصحيحة التي يرتضيها رب عادل ، حكيم ، عالم و عظيم.