ذاكرة مليئة بالندوب ( قصة)

عقيلة آل حريز *

"نتوجع لنكبر وننضج .. فهل ينضجنا شيئاً غير أوجاعنا التي علقت بالذاكرة  ؟!..

لستُ أظن ..!! "    

                                                        عقيلة محمد

  •    الطريق من القطيف إلى العراق 1986 ..........

  لعله كان مجبراً على مرافقة والده في رحلته التي لابد منها .. الطريق طويلة وليس والده متأكداً تماماً من صحتها وكان الجميع يخشى عليه من السفر  بمفرده خاصة مع تزايد تصاعد الأحداث الأمنية هناك ، و على "عباس" أن يكون دليله فيها ليتلافى الضياع في الطريق  كما حدث معهم المرة السابقة ، لكنه من الداخل لم يشأ أن  يرافقه  فلازالت الأحداث التي عالجها قبل أشهر تلفح ذاكرته بالوجع، فيتعثر بعضها على شبه ضوء ممزق ،إذ لازالت تفصيلاتها عالقة برأسه .

 لم تفلح تمتمات أمه ولا الرُقيات الشرعية والأعشاب الشعبية التي استعملتها لعلاجه بأن تنسيه كل المشاهد التي عاشها تماماً وإن كان تواجده مع أسرته قد أعاد له شيئاً من الهدوء والاتزان النسبي ، ورغم تحسنه الظاهر إلا أن الكوابيس المزعجة ما فتئت تعاوده من جديد مرة بعد أخرى، غالباً ما كان  يستفيق من نومه مفزوعاً متصببا بالعرق البارد من حوله، كل ما شاهده حتى الآن مزعج ويكاد يخشى من الباقي، عمره لم يتجاوز الثانية عشرة بعد، غير أنه عاش تجربة أكبر من سنه بكثير .

 حاول والده أن يُسلي عنه بعض ما يشعر به فأخذ  يحدثه  طوال الطريق في أي شيء يقطع صمت السفر وعن كل شيء يمكنه أن يطرأ بباله فيأخذه معه إلى عالمه ، وكان "عباس" يستجيب له مرة ويشرد عنه مرات أخرى إلى حيث كان قبل عدة أشهر عندما أتى مع أعمامه لزيارة أقربائهم في العراق ولإتمام خطوبة ما لأحد أولاد عمه الكبار، كل شيء كان يبدو مألوفاً في البداية وطبيعياً في حدود رحلتهم الأولى التي قطعوها ، غير أن الحكاية بدأت منذ أن أضاع الدليل الطريق بعد أن اجتازوا حدود "الكويت" مروراً "بالبصرة" .

 الشمس تشرق نهاراً  فحسب هذا ما ألفه عباس، إذ لم يتصور أن يشاهد ضوءها القوي متوهجاً بشدة في هذا الليل البهيم ، الضوء المنبعث من المكان غريب لا يوحي بالطمأنينة مطلقاً . بدت ملامح الارتباك  واضحة جلية على وجوه أعمامه، وفهم مما يدور حوله بأن ما يشاهدوه من ضوء قوي منبعث  أمامهم ليس هو بالنهار ، فبعد خروجهم من الجمارك العراقية دخل بهم قائد القافلة من حيث لا يعلم إلى جبهة من جبهات الحرب والقتال هذه الحرب التي سمع عنها طويلاً ويحرص قومه على متابعة أخبارها أولاً بأول، اقتربوا منها لدرجة أنهم قد  شاهدوا عدداً كبيراً من الجنود في الخنادق ببنادقهم يختبئون في الجبهة ، و بسرعة رجعوا للخلف متجنبين  نيران القصف  و القذائف فتمكنوا من الخروج من هذا المكان أخيراً ، وبعد بحث مضني وتقصي طويل استدلوا على الطريق الصحيح الذي كان عليهم أن يسلكوه ، سمعهم يتمتمون بأنهم نجوا من الموت بأعجوبة ، ربت عليه أحد أعمامه ليشاكسه إذ كان أصغرهم سناً  :

-       لا تقلق يا فتى سنعيدك للبيت سالماً ، فاطمئن .

 وأخذوا يضحكون أو يتضاحكون .. هكذا حلل هو الأمر في رأسه،  فلازالت أنفاس الخوف تطرق خفقات قلوبهم المتلاحقة التي لم تهدأ إلا حين ابتعدت عن موقع الجنود بمسافات ، لكنه وحده  بقي يخشى من مواجهة أمور أصعب .

 ****

 دائما ما تعزف الآلام ألحاناً مُرة تتصدع بها جدران القلوب فتهزها بعمق وقد لا يُرمَّد هذا الألم غير حداد جديد تحتضنه صفوف الذاكرة تختزله بين مسافات الأيام  ..

 ظل وجع الذكرى القديمة يلفح ذاكرته الغضة بالعديد من الصور والأحداث المزعجة التي كان يعيشها شاهداً . توقف والده عند أحد مراكز التفتيش ، وسأله إن كان يريد شيئاً ليحضره له ، فأجابه بالنفي تركه والده فبقي هو معلقاً بصره بكومة متحركة من خلف الورق المهمل بجانب القمامة كانت تعبث بها الريح عبر زقاق إلى جانب المحطة سرعان ما تبين له بأن خلفها كان يتواجد قط جائع يبحث عن شيء يأكله ، حمله هذا المنظر  البائس إلى حيث كان يستشعر البؤس في شخص "جواد أو جودي" كما يحلو للبعض تسميته ، وهو صبي صغير مقارب لعمره كان يعاني من إعاقات عقلية وجسمية ظاهرة لكنه كان يتسم بالطيبة والإنسانية والوفاء، وشخص مثله عادة يكون حظه من الحياة أن يأتي زيادة على هامشها المعيشي الصعب في ظل أنظمة وقوانين متعسفة وسياسات جائرة لا تجيد حلاً لأمورها غير القتل والتصفية والتعذيب، ولا تبالي بالأسوياء من البشر فماذا عن غيرهم ممن يكون شأن الاهتمام بهم ترفيه بشري في مثل هذه الظروف، لذا كان على صديقه جودي أن يعيش كخادم أو شبه خادم للأسرة والجيران يلبي طلباتهم كنوع للحشر المعيشي بين الناس ، وعندما تركهم عباس المرة الأولى وعاد بعدها مرة أخرى لم يجده ، فقد اختفى صديقه جودي ولم يعد يعرف عنه شيء،  سأل عنه فلم يتلقى جواباً واضحاً لسؤاله ، فالناس لم تعد تجد أن فقد أمثاله من البؤساء خسارة باهظة لأنه لا يعادل خسائر أكبر صارت تفقدها كل يوم بشكل متسلسل وسط غياب من يقتص لها ويتابع مواجعها اليومية، شخص  مثله من كان سيهتم بوجوده من عدمه في وسط الأحداث  والظروف السياسية القاهرة التي يعيشها الناس آنذاك في العراق . .

 استلقى في مقعده محتضناً ذراعيه وخليط من الذكريات الكثيفة تطوف به ..  هاهي الخُطبة تتم أخيراً وسط تبريكات وأهازيج شعبية قبل أن يستقروا "بالنجف" مؤخراً، ربما استغرق منهم الأمر أياماً أخرى عاشوها مع الناس هنا، فلديهم  العديد من الأقرباء عدا الجد للأم الذي يسكن مدينة "كربلاء" والذي ينحدر من أصول إيرانية، بعد أن  هجِّر نظام "صدام حسين" البعثي الكثير منهم إلى الحدود مع قيام الحرب العراقية الإيرانية حتى لا ينضم منهم أحد للجيش الإيراني ويبقى في صفوفه للقتال ضدهم .

  الأحداث السياسية الراهنة تلك الفترة لم تكن قد علقت بذاكرته تماماً حتى زيارته الأخيرة للعراق ، لكنه زار أماكن كثيرة ، ووقف على الكثير من أوضاعهم السياسية التي يعانونها ، كما تعرف على الكثير من الجيران وربما عقد صداقات أخرى مع من هم في مثل عمره، لكن بيت واحد لازالت صورته لم تبارح جدران ذاكرته بالرغم من مرور سنوات طويلة على رؤيته له ، لأنه البيت الوحيد الذي بدأ ينقش الوجع داخلها منذ خروجهم من هنا ، وهذا البيت هو بيت بسيط لأسرة تقتات الكفاف وقلة الحيلة وتستسقي جود الآخرين وإحسانهم،  وتستظل بسحب الصبر والإيمان الذي يعيشه الكثير من العراقيين في ظل النظام البعثي الظالم الذي فرضه عليهم الطاغية آنذاك،  كان ذاك البيت هو بيت "أم عبد الرسول" أو أم رسول كما يختصر أهل الحي تسميته استسهالاً للنطق، وهي سيدة عراقية طيبة ومؤمنة، مطمئنة الروح رفيعة النفس والأخلاق بالرغم من فقرها وكان لها أولاد وبنات في مثل عمره ، كثيراً ما زارهم ليلعب معهم ، وطالما ساكنهم هناك وتناول وجبات الغذاء برفقتهم فهم جيران لعمته  شقيقة والده " أم يوسف" التي يقطنون عندها.

 لا يتذكر الصبي بالضبط  الكثير عن تفاصيل ذاك النهار منذ البداية لكن الأكيد أنه كان يلعب مع رفاقه في الزقاق حين امتلأ المكان فجأة بالعديد من الجنود والضباط البعثيين وسيارات الاستخبارات  وأسلحتهم التي يحملونها حين بدءوا يتوافدون بقربهم ، شعروا بخطورة الأمر فانطلقوا بسرعة لمنازلهم، فأوصدت عليهم الأبواب بالأقفال ، وبدت مرحلة عد الأنفاس أو كتمها .

 حاول الخروج مع أبناء عمته ليستطلعوا الأمر ، لكن عمته (أم يوسف) منعتهم بشدة حين تناهى إلى سمعهم أصوات طلقات نارية متوالية ،  يتبعها نواح نسائي حارق مازال يذكرها حتى الآن ، إنها ثلاث رصاصات متتابعة يذكرها عداً ،فقد كانت عمته تشهق في كل طلقة منها وتضع إحدى يديها فوق صدرها بينما الأخرى تحبس بها شهقاتها حتى لا تفضحها. تجمدت  الأمور كلها دفعة واحدة بداخل "عباس" الصبي الذي وقف متسمراً حين شاهد عمته تبكي هي الأخرى وكأنها حاضرة معهن  أوكأنها تعرف ما يجري هناك بالخارج .

 ****

 لم يتبقى في القلوب غير نور الإيمان وبقايا احتراقات  موجعة تبثها بأنات متواصلة حين تزحف فوق سقف الروح ... فلا شيء يبقى في ذاكرة المرء منقوشاً بقوة مثل ما تبقيه ضحالة الوجع ... ريح غريبة تئن هي الأخرى بالخارج،  ونواح عميق يرتطم صوته بالواقع فيدوي صداه مبتلعاً كل السكون ... ما عداه .

  لحظات وفُتحت الأبواب التي كانت موصدة قبل قليل ، خرج "عباس" كغيره يستطلع الأمر ، كان النواح صادراً من بيت جارتهم "أم رسول" .

قدماه كانت تتحسسان التراب على عتبة الباب وترتعشان فيرتجف معهما كيانه كله بالرهبة والخوف حين وصل هناك مع الجموع الغفيرة من الواصلين ، ليشاهد بركة نازفة تندفع منها الدماء بغزارة وجسد طازج يرتجف وسطها بانتفاضاته الأخيرة مودعاً بؤس الحياة وشقاءها من خلفه، والنساء ملتفات حوله باكيات وهن يلطمن وجوههن ويشققن جيوبهن ، وعلى مقربة من بقايا المعركة التي حصلت ولا يبدو أنها كانت متكافئة أساساً  يتواجد "أبو رسول" الرجل الكبير المقعد ملقيا على بطنه فوق الأرض يبكي بحرقة مكلومة، لا يستطيع معها الحديث ويده تتحرك برعشة ضعيفة نحو السماء وكأنها تُشهد الله على ما يجري ودموعه الغزيرة مختلطة مع إفرازات لعابه . 

****

 -       عباس ،استيقظ يا عباس .. عليك أن تتناول شيئاً .

هزه والده برفق فانتفض كعادته من نومه مفزوعاً

-   ماذا بك .. أنا والدك فاطمئن ، هل عاودتك الكوابيس مرة أخرى ، هذا ما كنت أخشاه ، لا تقلق يا بُني ولا تخشى شيئاً  أنا معك الآن .

بدا المنظر فظيعاً وقاسياً ليحتمله صبياً في مثل عمره ، كان "عباس" يخشى من هذا الكابوس، وبدأ في العودة للواقع فشعر بغربة المكان،  أخذ  والده يمسح على رأسه بيديه وهو يتمتم بآيات من القرآن الكريم ، يحتسب تارة ويلعن تارة أخرى أشخاصاً وأنظمة ظالمة وفاسدة تسببت لهم في هذا التشتت، حتى أعاد له شيئاً من الهدوء والتوازن النسبي.

 كان كل ما شاهده "عباس" ذاك اليوم من مشهد قاسي  هو تنفيذ عسكري لحكم الإعدام الذي نفذ رمياً بالرصاص "لرسول" الابن الأكبر لهذه العائلة، فقد كان أحد المجندين في الجيش العراقي في الحرب ضد إيران،  وقد هرب من الجيش قبل  سنه و تم القبض عليه في محافظة "كركوك" بشمال العراق، لكنهم لم يعدموه وقتها، فنظامهم البعثي كان يقتضي إعدامه في بيته أمام أمه و أبيه و باقي أفراد أسرته نكاية به وبهم . وقد علم الصبي فيما بعد بأنهم  كانوا عادة بعد إعدامه يطلبون من أسرته ثمن الرصاص الذي قتلوه به فهم يعتبرونه خائن و لا يستحق حتى ثمن الرصاص الذي يُعدم به، لذا على أسرته دفع ثمنه للحكومة العراقية ، كما أن النظام يُعطي الأسرة عادة  أوامر بدفن قتيلهم خلسة من دون تشييع لجنازته أو إقامة مجلس فاتحه على روحه، فهو خائن  ولا يستحق شيء من طقوس  التشييع والدفن كالآخرين .

 ****

 يومان فقط هما كل ما بقي بعد هذا الحادث  في العراق، وهما حصيلة ما خزنته الذاكرة من ألم لكنه لم يكن كأي ألم يمكن أن ينسى سريعاً، عاد بعدها "عباس" مع أعمامه إلى "القطيف" بعد أن ودع أكبر أبناء عمته وهو "يوسف " ابن الثامنة عشرة من العمر، والذي كان مجنداً هو الآخر في الجيش والذي كان وقتها في إجازة حين رجع عباس إلى القطيف، كل ما علق بذاكرته حين رجع أصوات قوية لدوي الرصاص ومشاهد من الدماء الساخنة وسط بحيرة متدفقة في بيت "أم رسول" تصطحبهما سحابة عويل أزلية تمطر برعدها داخله لا يستطيع الفرار منها حين يريد، وكأن الأمر حدث أمامه للتو ... رحل عباس إلى بلده القطيف وكان لرحيله عودة أخرى تسرج خلفها باقي الأحداث  .

  وها هو والده الآن بعد مدة  قصيرة يعود للعراق لزيارة أخته "أم يوسف" والاطمئنان عليها بعد الأنباء التي سمعها مؤخراً مصطحبا معه ابنه "عباس" ، الرحلة هذه المرة تبدو أقصر نسبياً من سابقتها فلم تتكرر نفس التجربة الأولى لحسن الحظ ، لكن سوء الأوضاع الحاصلة قد فاجأتهم بأمر آخر لا يقل قسوة عن سابقتها فحين وصلوا  النجف كان النظام  قد اعتقل الكثيرين ، ومنهم أفراد وأقرباء لعائلته  من النساء و الرجال و الأطفال والشيوخ بلا أي  استثناءات من الذين يعودون لجذور إيرانية، وقام بوضعهم في السجون والمعتقلات استعداداً لترحيلهم لإيران ، لم يكن "عباس" يهتم بشيء تلك الفترة مما يجري فقد تولد لديه نوع من اللامبالاة إزاء  ما يحصل فالناس هنا تحمل آمالها الثقيلة وترقص رقصات الموت الأخيرة قبل أن تتهاوى متساقطة تحت أمطار الرصاص أو تطوى قيد صفحتها لدى أحد السجانين في ظلمة لا يكاد أن يصلهم إليها أحد أو حتى يمكنه أن يسأل عنهم حين يفقدهم . 

 وكانت عمته "أم يوسف" في هذه الأثناء تقوم بطهي الطعام لهم فيحمله هو برفقة ابنة عمته الصغيرة  ليوصله للسجن .كل ما لاحظه "عباس" عندما كان يزورهم أن النساء كن أيضاً متواجدات في المعتقل و كن يضعن أغطيه النوم على فتحات النافدة في الباب الحديدي  الصدئ حتى يتفادين تلصص الجنود البعثيين ويستترن من نظراتهم الفاحصة عليهن ومضايقاتهم المستمرة لهن ، ويكاد " عباس" يقسم حين يستعرض المشهد أمام  ذاكرته بأن الفئران لم تكن ترتضي أن تعيش في مكان قذر كهذا،  روائح مزعجة ، طحالب معشوشبة بالعفن في زوايا بعض الجدران ، رطوبة خانقة وظلام موحش لا نور فيه ، وسجان أو أكثر يحمل أوامر وتعليمات تشترط عدم توافر أي نوع من أنواع الراحة لمسجونيه .

 و خلال الفترة التي قضاها هناك كان يخرج من معتقل النساء و يذهب إلى معتقل الرجال يطرق بابه في خوف و وجل ويتكلم بما يريد كالهامس ، وكان هذا السجن عبارة  عن قفص حديدي كبير أشبه ما يكون بأقفاص الحيوانات يكتظ بالمعتقلين.  وليس من عادة "عباس" أن يركز النظر في عيون السجانين لكنه كان يحس أنهم خلقوا ليقوموا بتعذيب هؤلاء البشر وخنق حرياتهم ، كان يشاهدهم من خلف الأبواب الحديدية المعتمة والأقفال والتروس الضخمة التي يكاد الصدأ أن يأكلها ، وكانت رائحة الرطوبة تملأ المكان وتخنق النفس بداخله، فهو رطب مليء بالعفن يتنفس بالروائح الكريهة المنفرة فيبدو معه وكأنه قبر فعلاً . و لكثرة المعتقلين في هذا القفص كان بعضهم ينام بينما الآخر يقف، وكانوا يتبادلون الأوضاع في تحايل منهم للتكيف مع أدنى مستوى من الاحتمال الآدمي .

 ***

 أكثر الأمور التي كانت تشعر "عباس" بالانسحاق في أعماقه ، هي أنه حينما كان يضع  الطعام عند الحراس فيدخل للمعتقلين المكتظين يشاهد أوضاعهم المزرية عن قرب ، ورغم ذلك كانت تتجلى له معاني كثيرة من الصبر والتحمل والجلد متمثلة أمامه  في شخوصهم ، ومن أكثر الأمور التي نقشتها ذاكرته تلك الفترة ومازالت تحتفظ بها هي صورة لوالدهم الشيخ المسن الذي تضيء جوانب روحه بالإيمان فهو سيَّد مهيب موقر بجلال الشيب وبهائه،  كان يفترش الأرض بعباءته وإلى جانبه عمامته ومسبحته ونظارة يلبسها عندما يفتح المصحف ليتلو كلام الله فيه طوال الوقت .

 رجع "عباس" بعد هذه الرحلة إلى وطنه سالماً لكن ذاكرته كانت ممتلئة بالندوب متخمة بالمواجع التي نمّت لديه الإحساس بمهانة الإنسان وهوانه في هذه الأرض .

 بعدها بوقت قصير سمعوا عن ترحيل أفراد من هذه العائلة إلى بلدهم "إيران" لكن ثلاثة من الأبناء لم يكونوا برفقتهم ، أما عن "يوسف" ابن عمته فلم يلقاه في هذه الرحلة،  فقد قيل أنه وقع أسيراً   .

 

  زيارة قم عام 1994 ..........

 كانت أول زيارة "لعباس" إلى مدينة قم بعد ما يقارب الثمانية أعوام من وقوع الحادث ، فقد زار السيدة المعصومة أخت الإمام "الرضا" عليه السلام ومن الطبيعي أن يلتقي ببعض أقربائه من العائلة هناك حين زار  مدينة "قم" لأنه سيتوجه بعدها مباشرة  لمدينة مشهد وزيارة الإمام الرضا ، استوقفته قريبته "أم جواد" وهي الأم لهذه العائلة المقيمة وكان يناديها (بالعمة أم جواد) لقرابتها اللصيقة بوالده، وعلى ما يبدو  أن الحزن قد أكل منها الكثير خلال هذه السنوات الطويلة فلونها بسرابيل القاتمة .. هذا ما لاحظه عليها حين حدثته، استوقفته لتذكره بأبنائها الثلاثة وهي تتلو عليه أسمائهم وتسأله :

-       هل تذكرهم يا عباس ؟

وبدا كمن يتأمل صورهم ماثلين أمامه واحداً تلو الآخر وكأن ظلالهم ما تزال قابعة على أهداب ذاكرته التي أطبق عليها الوجع ، أجابها بأنه لا يزال يتذكرهم إذ أنه لم ينسى شيئاً مما حصل معه لينساهم، فهل يمكن أن تستقيل الأحزان من ذاكرة متخمة بالكثير منها .

قالت له وقيود من نحيب سنوات متواصلة تطفئ صوتها بتهدجات حزينة ومرة :

-       أريد أن أطلب منك أمراً بشأنهم ، فهل تجيبني إليه ؟

-       تفضلي يا عمة  كُلي لكِ إنشاء الله .

-   أنت زائر يا بُني، وتحضر لأول مرة عند الإمام الرضا (عليه السلام)، والزائر لأول مرة يمكنه أن يطلب ثلاث طلبات من عند الإمام الرضا .. لذا أرجو أن تخصص إحدى طلباتك لرجوعهم لي .. !

 ليتها اندثرت رائحة الشجون مع ظلمة الأيام المارة بحقول ذاكرة مكلومة تاريخها لم يصنع غير المواجع والألم ... لم يرد عليها "عباس" بجواب فالحزن وحده كان قد تكفل بكل شيء ، بعدها توجه من فوره لمشهد مؤازراً وجعها  متضرعاً بتراتيل من الدعاء الخالص مستشفعاً لها بالنحيب وطول السنوات العجاف التي شهدتها  بانتظار معرفة ما يؤول إليه مصير أبناءها، إذ لم تبارحها أضرحة الألم  فما زالت عمته "أم جواد" كغيرها تحمل آمالها الطويلة كأم ثكلى على نعش من بصيص أمل خافت ، تعربد بجوانبه ريح القهر وتصفر داخله  بمخاوف كثيرة وآمال مؤجلة تطرقها كلما خفق الزمن أو لاح بتباشير تحمل الجديد مهما كان  .

 

  • بعد دخول القوات الأمريكية وسقوط النظام  2003م ......

 لكل الأمور مآل،  ولا بد من رقصة واحدة تطوق رمزيتها في النهاية ، فإما أن تعلن بها  عن حداد متواصل اعتاده أصحابها ،  وإما أن تنطق بتباشير الحياة ممزوجة بخيوط الأمل حين تنفك قيود الشقاء عنها ولو لوهلة ... وبالرغم من أن هذا الشقاء  لا يريد أن يُنهي الأحزان  أو يرمد حقول الوجع ولا أن يقتلع بقايا الأشواك التي تنمو  ملتفة بخشونة في أبراج الأمل الموءود ، لكن وعلى ما يبدو أن هناك دوماً فسحة ما لتنفس بعض الهواء وإن جاء ملوثاً بعد استنزاف أنهار الدماء .

 سقط صدام حسين كما تهاوى حزبه من بعده واندثروا كسحابة سوداء لم تلبث أن تلاشت  بعد سطوع الشمس وإن طال بقاءها ، وافتتحت المعتقلات  وما أكثرها ، وأخرج من بها من المساجين المطحونين وما أبشع ما شوهد فيها من بقايا سنابل عاثت بها ريح السلطة العاتية، ولم يُعثر حتى الآن على أبناء  عمته الثلاثة ولا حتى على جثثهم أو شيء يدل على هويتهم ومثلهم كثيرين، ولعلهم كما يُرجح البعض قد يكونوا متواجدين ضمن المقابر الجماعية التي صار يُكتشف المزيد منها كل يوم بعد سقوط النظام . أما عن يوسف ابن عمته فلم يكن كذلك بين الأسرى الذين رجعوا ولم يجدوا جثته هو الآخر أيضاً ولا يعرفون عنه شيء حتى اللحظة .

 سكنت كل هذه الأحداث ذاكرة "عباس" خلال زياراته القصيرة للعراق ولازالت تئز  بداخلها كريح عاتية كلما حركت مراكبها بغضب وعنف،  وبقيت مشاهداته في هذه الرحلة رمداً قديماً يدثر ذاكرته بالحزن والندوب الكثيفة كلما حط به على أحد المرافئ الممزقة بضوء من أضواء الظلم أو العداء والقهر الإنساني الذي لم يجد من ينتصر له حتى الآن .. لكن سؤالاً واحداً هو الذي بقي مغروساً بداخله يفرض تواجده كلما تمايلت الفصول الموجعة عليها " إن كان ما فعله نظام صدام بي مؤلم لهذا الحد، فكيف بآثارها في نفوس أهل العراق والفاقدين والثكلى ؟!"

  

تمت

 

عقيلة آل حريز

5/رجب /1427هـ

2006م

كاتبة وقاصة (سعودية )