قصة قصيرة : قذيفة
إهداء ...
إلى أرواح كل الشهداء ..
من العراقيين الشرفاء الأبرياء ..
الذين سقطوا مضرجين بالدماء ..
على ثرى البصرة وبغداد وكربلاء ..
بنار الغزاة المعتدين الأدعياء ..
قذيفة " الرحمة " ... في مشهد الحسين !
لم يستطع النوم بسبب دويّ الانفجارات ، وصوت القذائف والرصاص المتطاير في أجواء كربلاء.. وقف وسط البيت ، بوجهه الشاحب ، وعينيه المنتفختين من كثرة البكاء . أخذ يمسح دموعه بيده المرتعشة. يستعيد أنفاسه ، التي تدخل بعمق ٍ تارة ً، وتضعف حتى تكاد تنقطع تارة ً أخرى ... كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرا ًً تقريبا ً..
فجأة وقف بين يديه طفل في بدء الخامسة من عمره ، ينظر إليه من أسفل وكأنه ينظر إلى برج ٍ شاهق ٍ ، وعيناه الخائفتان قد فاضتا بالدموع .. وهو ينشج بصوت ٍ خفيض :
- أبي .. أبي .. أبي..
ترددت هذه الكلمة في أرجاء البيت الكربلائي العتيق ، فصمّت أسماع الأب الباكي ، فانتفض وكأنه أفاق للتوّ من نومه . نزل ببصره إليه. رمقه بنظرة ٍ آسية ٍ مشفقة ٍ حنونة ، ثم هبط بجسده المرتعش المتعب أمام الطفل ... نظر إلى وجه الصغير ، فتجمعت غيوم الحزن في عينيه . هطلت الدموع على صحن وجهه .. فسالت حينئذ ٍ دموع الصغير على وجهه الذي بدا عليه القلق والهلع حتى ابتـُـلّ . مسح الدموع عن وجه الطفل الحزين ، بيديه الراجفتين ، وسأله برفق .. وقد طوق وجه الصغير بين راحتيه :
- لماذا تستيقظ الآن ؟ عد إلى النوم .. لا زال الوقت مبكرا ً !
بكى الصغير وأخبر أباه بأنه مشتاق ٌ جدا ً لرؤية أمه التي مرّت عدة أيام لم يرها فيها . رق ّ له قلب الأب المحزون. قبّـله على خده الأيسر ، وقال :
- لم البكاء يا حبيبي ؟ لا تليق الدموع المالحة بوجهك الصبوح ...
- و لماذا أنت تبكي ؟!
تحدرت دمعتان من عينيه المتورّمتين ، فزادهما ذلك احمرارا ً ، وأخذته انتحابة ٌ جهدَ كثيرا ً في أن يكبتها... قال بعدها بحرقة ٍ وأسى ، وقد سرح ببصره بعيدا ً ، ينظر إلى لا شيء ( وكأنه يكلم نفسه أو يكلم الهواء ) :
- أبكي موت أمك ، أم أبكي حالي وحالك بعدها .......
فسأله بكلّ فضول الطفولة البريء :
- ما معنى " موت " ؟
فانتبه الأب المسكين إلى أنه قد تفوّه بما لا يجب أن يقوله أمام الصغير ، فاحتار : كيف يخرج من هذه الورطة ؟ وبمَ عساه يجيب ؟
اضطربت نظراته قليلا ً وهو يفكر في منفذ ٍ يخرج به من هذه الورطة !!
... وأخيرا ً، رمقه بابتسامة شبه ميتة .. وقال له وهو يمرّر أصابعه بين شعر رأس الطفل :
- نعم يا حبيبي .. الموت : هو أن ينام الإنسان لوقت طويـ ............... ــل ، طويل ٍ جدا ً .
- لكنك قلت " موت أمك " ، هل يعني هذا بأن أمي نائمة ؟!
- نعم يا حبيبي .
ثم تنهد وأضاف بحسرة :
- لقد نامت وتركتنا لوحدنا.
استفسر الصغير بشغف :
- ألن تستيقظ ؟
- بلى .
- متى ؟
- لا أدري يا ولدي . علم ذلك عند الله سبحانه.
يترك قبلة ً شاحبة ً على جبهة الطفل الملساء ، ويشرح :
- قد تطول المدة يا حبيبي ، وقد تقصر .. قد تبعد وقد تقرب .. الله سبحانه وتعالى هو الذي جعلها تنام ، وهو وحده فقط القادر على أن يجعلها تستيقظ ثانية .
- ولماذا اختار أمي بالذات ليجعلها تنام ؟
يمط ّ الأب شفتيه ويرفع كتفيه ، ثم ينزلهما ليقول :
- أيضا لا أدري . الله سبحانه فقط يعلم ذلك.
يضيق ذرعا بإجابات أبيه المبهمة بالنسبة إليه .. يتأفف وهو يلوّح بقبضتي يديه بعصبية ٍ بالغة ، ويضرب الأرض برجليه وهو يقول :
- أف..ف..ف .. لقد اشتقت إلى أمي كثيرا ً... لماذا جعلها تنام ؟ أنا سأذهب لإيقاظها بنفسي .
يهمّ بالركض ، إلا أن الأب الأرمل يعترض طريقه ، ويمسك بعضديه ، ليسأله بعينين مستديرتين ، جاحظتين :
- إلى أين تذهب ؟!
- إلى سرير أمي لأوقظها من نومها !
هكذا ردّ الطفل بثقة ٍ وجد ٍ يشوبهما إصرارٌ وغضب.
يرتبك الأب المسكين . يقف حائرا ً من جديد ، فتترقرق الدموع في عينيه الملتهبتين كجمرتين من طول البكاء . يحاول ألا ّ يصدمه بالكلام ، فيتلعثم حينما يشرع في التفوه بأول كلمة . يبتلع الأب ريقه في محاولة ٍ منه للتجلد وعدم الانهيار أمام الطفل الصغير، ويركع على ركبتيه ، متهالكا ً إلى الأرض أمام ابنه . حدّق بعيني الطفل ، وقال له وهو ممسكٌ بعضدي الصغير مرة أخرى :
- إسمع يا ولدي .. إفهمني جيدا ً .. إن أمك ...
لكن الطفل ينفلت من بين يدي أبيه ، ليدخل غرفة نوم والديه ، ثم يعود بسرعة وعلا مات الدهشة والخيبة بادية على وجهه الصغير القلق حين لم يجد أمه نائمة ً هناك . فيسأل عن مكان نوم أمه ، فيجيبه الأب بأنها تنام هناك بعيدا ً .. في الجنة .. في السماء.. فيسأل الطفل عن كيفية الوصول إليها ، فيجيبه الأب بأن ذلك صعب . فيقترح على أبيه أن يجعلاها تستيقظ ، فيتعلل الأب مجددا ً بأن ذلك بيد الله سبحانه فقط . فيسأل الطفل عن مكان وجود " الله " وأين يسكن ، فيشرح له الأب بأنهما لا يمكنهما رؤيته بالعين ، أو لقاؤه وجها ً لوجه ، وإنما يمكنهما التحدث إليه عن بُعد ، فيسمعهما !!! فلما سأل عن أفضل مكان يمكن لله بأن يسمعهما فيه ويلبي طلبهما ، أجابه الأب اليائس ، من قبيل المجاراة للطفل :
- في المساجد أو المشاهد أو المآتم الحسينية أو الأضرحة والمزارات.
- إن المشهد قريب جدا ً من البيت.
- هل تقصد مشهد الإمام الحسين عليه السلام ؟
- لا أدري .. أمي تسميه " المشهد " فقط .. كانت تذهب إلى هناك كل يوم .. كانت تقول لي بأنها ذاهبة " للزيارة "!
- ولكن يا بني ...
- ألن يسمعنا هناك ؟
- بلى ، ولكن ..
في هذا الوقت ، يسمع الإثنان صوت القذائف ودويّ الانفجارات الذي يهز الأرض والسماء ، فيرتمي الطفل بعفوية في أحضان أبيه ، ويدفن رأسه خوفا ً من ذلك الصوت الهائل ، فيطمئنه الأب إلى أن يبتعد صوت الدوي تدريجيا ً...
- لنذهب يا أبي .. هيا .. الآن !
- تحت هذا القصف وهذه المدافع ؟! ألا تسمع هذه الأصوات المرعبة وتلك القذائف المفزعة ؟!
- ولكن أخر مرة رأيت فيها أمي ، كنا نسمع الأصوات المرعبة ذاتها ، لكن أمي لم تخف منها ، ورغم ذلك خرجت لتذهب إلى المشهد للزيارة . وأنا أيضا سأفعل مثلها ولن أخاف هذه الأصوات والقذائف !! كانت تصطحبني أحيانا ً إلى هناك ، ولكن آخر مرة ذهبت لوحدها ، وأجبرتني على البقاء معك في البيت ، أتذكر يا أبي ذلك اليوم ؟! إذن لا بد وأنها نامت هناك أو في مكان قريب !!!
حاول الأب المحزون أن يثني الصغير عن فكرته المخيفة تلك والتي قد تودي بحياتهما ، تماما ً كما أودت بحياة الأم ، ولكن محاولاته تلك باءت بالفشل أمام إصرار الصغير على أن يسأل الله في المشهد بالذات- في المكان الذي اعتادت أمه زيارته يوميا ً- أن يرجع الله له أمه أو يجعله يراها ولو لمرة واحدة !
التهب قلب الأب بنيران الحزن والشفقة أمام توسلات الصغير ، فلم يجد بدا ً من أن يخضع لرغبة ابنه الوحيد اليتيم ... كانت الساعة قد اقتربت من الرابعة والنصف فجرا ً. وكان قد اقترب وقت صلاة الصبح . وافق الأب على مضض ٍ بأن يذهبا لتأدية صلاة الصبح والزيارة في المشهد الشريف. إنطلقا من ساعتهما إلى مشهد الأمام الحسين (ع ) ، فيما ارتفع صوت أذان الفجر من منارات المساجد والمشاهد من حولهما. اجتازا أزقة كربلاء العتيقة وشوارعها المدمرة ، بحذر ٍ شديد ٍ ، وخوف ٍ عميق ٍ ، يتكوّران خلف أحد الأزقة تارة ً ، وينسلا ّن في عجل ٍ فوق أحد الأرصفة البالية تارة ً ... يتلفتان يَـمنة ً ويـَسرة ً حذرا ً من أن تصيبهما رصاصات طائشة من هنا أو هناك ، وخوفا ً من أن تسقط عليهما حمم الأمريكان من السماء ، فتجعل جثتيهما أشلاء ً دامية ً ، أو كتلتي لحم ٍ متفحمتين ، تتصاعد منهما رائحة الرماد والأبخرة في لمحة عين !!
أخيرا ً ، ها قد وصلا صحن المشهد الطاهر بعد عناء ٍ ومشقة ٍ ، فأسبغا الوضوء استعدادا ً لأداء صلاة الفجر وركعتين أخريين تحية ً مستحبة ً لصاحب الضريح الشريف . ما إن دخلا الغرفة التي يوجد بها الضريح الشريف ، حتى أصابتهما رجفة ٌ عجيبة ٌ ، وكأن ريحا ً باردة ً قد هبّت عليهما ، رغم حرارة الجو عموما ً ، والذي تزيده الحرب حرارة ً فوق حرارته ! وتنشّقا هناك رائحة ً عـبـِقة ً ، لا يعرفان مصدرها بالتحديد ، لكن الأب أجاب بعفوية ٍ ودون أن يتوقف حتى للتفكير- عندما استفسر الصغير عن مصدر تلك الرائحة الزكية- بأنها تنبعث من داخل الضريح .." من هناك .. من الشباك .. من الضريح .. من دماء الشهداء السائلة ياولدي " ... وشرح للصغير بأنها في تجدد دائم طوال الليل والنهار عبر الزمان .. وكأنها تتسرب إلى هنا من معين الجنة وخزائنها التي لا تنضب أبدا ً !!!
- ماذا سنفعل الآن يا والدي ؟
- سأصلي أولا ً فيما أنت تمسك بشباك الضريح الطاهر وتسلم على الإمام الشهيد (ع ) ، النائم هناك في الداخل ، ثم تدعو الله وتسأله أن يحقق لك ما تتمنى .
إنشغل الأب في صلاته ، فيما أخذ الطفل الصغير بالتعلق في شباك الضريح الطاهر المذهب ، وأخذ يدعو الله ويبكي ويتوسل بكلمات ٍ طفولية ٍ جدا ً بأن يرد ّ عليه أمه أو يريه إياها .. هذا أقصى ما يتمنى .. وبعد ذلك لا يريد شيئا ً .. ولن يطلب أي شيء مرة أخرى .. أمسك بيديه الصغيرتين بالشباك الذهبي للضريح وهزّه بيده هزا ً عنيفا ً وبكى بحرقة ٍ ، حتى أبكى كلّ من كان حاضرا ً هناك ، وألحّ على رؤية أمه باستماتة ، فأشفق عليه بعض من كان حاضرا ً هناك ، فحاولوا إبعاده عن شباك الضريح الشريف رحمة ً به ، فأبى ذلك . وحاولوا تسليته والأخذ بخاطره ، فأبى أن يترك الشباك الشريف ، وكأن يداه التصقتا به ، فلما لم يقدروا عليه ، تركوه إذ ذاك وشأنه ، فاستمر على تلك الحال حتى حدث شيء غريب !
فجأة توقف الطفل عن البكاء ، وفتح عينيه على اتساعهما ، وأخذ يحدق في داخل الضريح الشريف من بين فتحات الشباك الذهبي الصغيرة ، وابتسم ... قام إليه رجل ٌ مسنّ ، ومسح على رأسه بعطف وقال له :
- هل اشتفيت من البكاء يا ولدي ؟ تعال لأعطيك بعض الماء.
ابتسم الطفل ابتسامة ً صغيرة ، وترك الشباك الذهبي طواعية ً، وذهب مع الرجل إلى حيث كان يصلــّي الأب ، وجلس قريبا ً منه ، فيما ذهب الرجل المسنّ لجلب كأس الماء له . رجع الرجل بكأس ماء ٍ باردٍ ، وناوله الصغير ، فشرب نصفه وردّه إليه ، وقد بدت عليه آثار الفرح الخفيف .
فرغ الأب من صلاته ، وفتح باعيه للطفل الصغير، فقفز بسرعة إلى حضن أبيه . أجلسه الوالد على إحدى ركبتيه ، وأخذ يمسح الدموع التي غسلت وجهه البريء . قبـّـل الطفل وضمه طويلا ً إلى صدره ، فسأله إن كان فعل كما أوصاه ، فرد الطفل ببراءة ٍ بأنه فعل ذلك ، وبأن الله قد سمعه واستجاب له !!! ذهل الأب في البدء ، ثم فكر في نفسه بأنه لا بد وأن يكون خيال الأطفال الرحب ، الذي لا تحده حدود ، ولا يخضع لقوانين الحقيقة والواقع ، فابتسم مُجاراة ً للطفل ، وقال له مازحا ً :
- يا لك من شيطان ٍ صغير !! أيستجاب لك خلال عشر دقائق ، وغيرك يدعو منذ عشر سنين ولا يستجاب له ؟!
أجاب الطفل مؤكدا ً ومصرا ً :
- نعم يا والدي ، لقد رأيت أمي هناك...
وأشار بسبابته الصغيرة إلى الضريح . ثم أضاف :
- نعم لقد كانت جالسة ً هناك ، تنظر إليّ وهي مبتسمة !
اصفرّ وجه الأب فجأة ً ، وتبدلت ملامحه . ظنّ بأن الطفل مريض وبأنه قد بدأ يهذي ، فوضع يده على جبهته يجس حرارته ، فلم يجد ما يدعو للقلق ، فتعجّب في قرارة نفسه من إصرار الطفل على ما قال. أشاح بوجهه ناحية الشباك الذهبي ونظر إلى الضريح الشريف طويلا ً ، ثم حوّل بصره إلى وجه طفله الذي بدا له متهلهلا ً وأكثر ارتياحا ً عن ذي قبل . " لم يكن مبتهجا ً هكذا عندما دخلنا المشهد الشريف ، ما الذي حدث أثناء صلاتي؟!" ، فكر بينه وبين نفسه . عاد وسأل طفله بهدوء وحنان :
- وماذا أيضا ً يا حبيبي ؟
- قالت لي أمي بأن لا أبكي أبدا ً ، لأني سوف أراها قريبا ً!
- أمتأكد بأنها قالت ذلك ؟!
- نعم لقد رأيتها وسمعتها هناك ...
وأشار بيده ثانية ً إلى ناحية الضريح الشريف ، ثم وضع رأسه ليرتاح على صدر أبيه. ربّت الأب المغبون على ظهر الصغير، وأطرق يفكر في كلام الطفل ، ويسأل نفسه أكانت رواية الطفل حقيقة ً أم أنه تخيلَ كلّ ذلك !! حدثه قلبه بسوء ٍ ما ، لكنه قاوم تلك المخاوف والهواجس ، بأن ابتسم إلى طفله ، ومازحه قليلا ً ، ثم ترك قبلتين على خديه ، وأجلسه في إحدى الزوايا محذرا ً إياه من أن يتحرك أو يغادر المكان لوحده ، ريثما يقوم هو بشعائر زيارة سيد الشهداء ....
يخطو الأب أولى خطواته مبتعدا ً إلى الضريح ، فيقفز الجميع فجأة ً... قذيفة ٌ أخرى ، وانفجارٌ مدوّ ٍ آخر.. يشتبك الأب وابنه من جديد ، إلى أن يزول الصوت الهائل ، ويشعر الطفل بالأمان والاطمئنان قليلا ً.. يكرّر الأب تحذيراته إلى الطفل ، ويتركه في الزاوية ذاتها...
يمم الأب نحو الشباك الشريف وأمسك به ، وقبّـله ، وتمسّح به ، وشرع في تلاوة أذكار الزيارة ، في خشوع ٍ وتضرّع ، وكان قد عقد النية على أن يترك كربلاء برمّـتها ، ويرتحل إلى غير مدينة ٍ في العراق ، لعل ذلك يساعد الطفل على نسيان أمه المقتولة بقذائف الأمريكان ، ويسلـّي خاطره ويلهيه عن تذكرها في كل لحظة كما هي حاله الآن ...
في هذه الأثناء كان الطفل يتأمل كلّ ما حوله بفضول بريء ، وكان قد أخذ نور الصباح ينبلج شيئا ً فشيئا ً، وببطء ٍ شديد ٍ غير ملحوظ ... وهبّت بعض نـُسيْمات الصباح المنعشة التي كانت تتسلل من الباب الكبير إلى الغرفة الوسيعة التي يستريح فيها الضريح الشريف ... وبدأت العصافير والطيور بالتسبيح على أغصان الأشجار ، وفوق البيوت والأسوار ..
كان الطفل يراقب حركة الزائرين وهم يدخلون ويخرجون من ذلك الباب الكبير . فجأة ً ، لمح عند الباب حمامة ً بيضاءَ تنقر بمنقارها الصغير أحذية الزائرين الملقاة عند الباب من الخارج ، فأعجبته كثيرا ً واشتاق إلى اصطيادها .. لكم أحب الطيور !! أغمض عينيه وتمنى لو أن يمسكها بين يديه ، ويربّت على ريشها الأبيض الناعم ، ويطعمها بنفسه ، ويلعب معها ، ويتباهى بها بين أصدقائه وجيرانه في الحي .. فتح عينيه وراقبها مرة أخرى ، فلا حظ بأنها تحاول الطيران عدة مرات ، ولكنها تخفق في كل مرة ، وأيقن بأنها ربما كانت مريضة أو مجروحة ولا تستطيع الطيران . شعر بالسعادة لذلك . شجعه حالها على الإقدام على مغامرة اصطيادها . لم يستطع مقاومة جاذبية الموقف . أغراه عجزها عن الطيران ، فزخرفت له نفسه البريئة سهولة اصطيادها . تسلل دون أن يلحظه والده المنشغل بتأدية شعائرالزيارة ، وخرج من الباب الكبير ، وأخذ يطارد الحمامة البيضاء وهي تتقافز من أمامه هاربة ً مرفرفة ؛ كلما حاولت الطيران ، ارتفعت قليلا ً ثم حطت على الأرض من جديد . واستمر الأمر بينهما على هذه الحال ، حتى ابتعدت الحمامة كثيرا ً عن غرفة الضريح الشريف ، وخرجت من المشهد الشريف بأسره ، والطفل المتلهف للإمساك بها ، يتبعها من مكان إلى آخر، بشغف ٍ ، محاولا ً الإمساك بها ..
كان الوالد لا يزال يغسل جروحه النازفة وأحزانه الساخنة بالزيارة والدعاء ... يتبرّك بلمسه شباك الضريح الشريف ، ويتضرع إلى الله وأهل البيت بأن يعينوه وطفله على احتمال مصيبة فقدهما لأم الطفل ، وأن يمنّوا عليهما بنعمة الصبر والسلوان أو بالنسيان ... بكى الأب طويلا ً ، وتضرّع طويلا ً ، وأمسك بالشباك المذهب طويلا ً ..
فجأة ً ، سمع الجميع صوتا ً مدويا ً ثالثا ً ، بدا من ضخامته بأنه على مقربة ٍ شديدة ٍ من المشهد الشريف مباشرة ً، أصيبوا برعب ٍ بالغ ٍ وفزع ٍ شديد ، فضجّ الجميع في وقت واحد يمسكون بالشباك الطاهر.. يذكرون الله كثيرا ً ويتوسلون بأهل البيت وخاصة ً الإمام الحسين المظلوم ، بأن يسلــّمهم وأهليهم من نيران الأمريكان ، وسألوا الله أن يلطف بهم ، وأن يمنّ عليهم بحسن الخاتمة والمغفرة .. ثم ........ ثم سكت الجميع ، وخفتت الأصوات شيئا ً فشيئا ً ، حتى ساد صمت ٌ رهيبٌ لفّ صحن المشهد الشريف وتوابعه وما حوله ، فازداد المكانُ هيبة ً ووقارا ً.. كل ذلك حدث في دقيقة ٍ واحدة ٍ ، وبسرعة ٍ خاطفة !
التفت الأب سريعا ً بعد انقشاع الخطر وخفوت صوت الانفجار، الذي رج المكان ، إلى حيث ترك ابنه ، فلم يجده هناك !! خفق قلبه بسرعة وجال بعينيه في أرجاء المكان فلم يعثر له على أثر ، سأل بعض الجالسين بوجل ٍ عما إذا كانوا قد رأوه ، فأجابه أحدهم بأنه كان قد رآه يخرج من الباب الكبير . أحسّ الأب بأن شيئا ً ما يسحبه إلى أسفل .. إلى الأرض .. وبأن قلبه يهوي من أعلى .. من السماء .. إلى مكان ٍ سحيق ٍ ليس له منتهى .. جر ّ خطاه ثقيلة ً إلى خارج الغرفة ، ثم إلى خارج المشهد الشريف...
أخيرا ً، عثر على الطفل السعيد ... لقد كان هناك .. نائما ً هو الآخر ، تماما ً كما نامت أمه من قبله ، مبتسما ً، فاتحا ً عينيه نحو السماء ، ومن حوله بركة دماء ، وبيده حمامة ٌ بيضاء ، مضرجة ٌ هي الأخرى مثله بالدماء ، وقد مزقت قذيفة الأمريكان- " قذيفة الرحمة "- جسديهما النحيلين الصغيرين ، وحوّلتهما إلى كومة أشلاء ، مع بزوغ أول أشعة الضياء ...
وبعد ؟؟؟
لا شيء !!!
فقط ...
ما زالت تتنزل في كلّ يوم ٍ قذائف " الرحمة " العمياء .. من وسط سماء ٍ غبراء .. وما زال ينام في كل يوم ٍ وسط ذات البركة الحمراء .. نفس الطفل البريء والحمامة البيضاء ..
وما زالت تبكيهمُ- دما ً- كربلاء .. من أمام ضريح سيد الشهداء ... !!!