العلامة الشبيب.. الغائب الحاضر
لايزال سماحة الشيخ عبد اللطيف الشبيب «تغمده الله بواسع رحمته» حاضرا بقوة في قلوب عارفيه ومحبيه فهو إن غاب عنهم بجسده إلا انه مترسخ في نفوسهم بما أنتجته حياته من عطاءات شتى وعلى صعد مختلفة.
اكتسبت شخصيته أبعاداً متعددة واتسمت حياته بالعديد من الظواهر الايجابية التي جعلت منه بحق - ومن دون مبالغة مفتعلة - متميزا ومتفوقا في الوسط العلمي الذي عاشه نصف حياته تقريبا، وبارزاً ورائداً في الوسط الاجتماعي الذي عاش فيه سنين حياته الأخيرة.
وأنا بحكم زمالتي وقربي من فضيلته لأكثر من عشرين عاما في سنين الغربة في الخارج وفي بلادنا الحبيبة بعد رجوعنا حيث تواصل ارتباطنا والتقاءنا الدائمين وجلساتنا المطولة في الحوار والمناقشة العلمية الهادفة - التي طالما استفدت منها وأضفت إلى رصيدي الشيء الكثير من خلالها - لذالك ومن هذا المنطلق أسمح لنفسي بالحديث عن هذا الرجل المتألق في الذكرى الرابعة لرحيله المؤلم على قلوبنا جميعا ولو بشيء من الإيجاز ,وأستطيع أن أحدد هذه السمات بالتالي.
الهدوء والوقار ـ الخلق العالي..
كل من عاش وجالس الشيخ المرحوم لاحظ وأعجب بهذا الهدوء والاتزان في شخصيته فهو بداية مستمع ومنصت يشكل جيد للطرف الأخر أيا كان قريبا أم بعيدا، ولم أجده يوما يقاطعني في حديثي - وأنا من مقربيه - وقليلا ما كان يحتد أو ينفعل في حواراتنا ونقاشاتنا في أوساطنا نحن أصدقائه وأما مع العموم مع الناس فأجزم بعدم وجود شخص يدعي مجالسة الشيخ ومناقشته ووجد منه خلالها انفعالا وخروجا عن مألوف الحديث.
هذا الهدوء طبع شخصية الشيخ وانعكس على طبيعة أدائه وممارسته لأدواره ونشاطاته الاجتماعية.
فالعديد من الناس حتى من أهل منطقته -أعني القرية التي ولد وعاش فيها- لم يعرفوا الكثير عن واقع الشيخ وحجم شخصيته الحقيقي إلا بعد رحيله فهو لم يكن من النوع الذي يميل إلى الضجيج والإعلام عن نفسه بتلك الوسائل الدعائية الصارخة -ولا يحتاج التفصيل في ذلك - وكذلك لم يكن يؤمن بطريقة المتصدين ذوي الحواشي والأتباع الملازمين لهم ليلا ونهارا، وهو قادر على صنع مثل هذه الأجواء من حوله لكن غلبة طبعه الهادئ هي التي فرضت هذا النمط في حياته الاجتماعية.
وحتى أنا الذي أدعي القرب الشديد منه لم يكن يحدثني عن نشاطاته إلا لماماً. وعلى سبيل المثال، لم أعرف بتأسيسه لشبكة مزن الثقافية في الانترنت إلا من قبل أحد الشباب العاملين فيها، حينما التقيت به صدفةً.!
أختم هذه النقطة للتأكيد على أن الشيخ«رحمه الله» امتلك شخصية جاذبة لا طاردة بوقاره وأخلاقه العالية وحسن حديثه مع الآخر. وما هذه المحبة في قلوب كل من عرف أو سمع به، والتي تزداد عمقاً يوماً بعد آخر لشخصه الكريم إلا خير شاهد ودليل على كلامي هذا.
الذكاء وحسن البديهة ـ النبوغ العلمي
كان الشيخ«عليه الرحمه» حاضر البديهة، حاد الذكاء، ما أهّـله لاكتساب المعلومة قبل الآخرين، وأكثر منهم. وقد شهد جميع من رافق الشيخ في مسيرته الدراسية الحوزوية بمن فيهم أساتذته ومعلميه بتفوقه على زملائه في عملية التحصيل العلمي، وفي سرعة تخطيه للمراحل العلمية بالحوزة.. ومن ثم وصوله إلى مرحلة البحث الخارج وقدرته الكاملة على استيعاب وهضم الدروس الملقاة من خلال معارضته أساتذته ومناقشتهم بالدليل العلمي القوي. وقد سمعت شخصياً من آية الله الشيخ محمد طاهر الخاقاني «حفظه الله» - وكنت حينها ملازماً لدرسه - شهادةً منه بذلك.
وكذلك شهد الجميع بتميزه عن الأساتذة الآخرين في قوة أدائه للدرس، واستيفاء شرحه لجميع مكونات المادة الدرسية، مما أهّـله لإعطاء وتدريس أصعب الكتب الحوزوية وأعقدها في حقول الفقه والأصول والفلسفة وما إلى ذلك.
وأما في الجانب الفكري والثقافي فقد كان لاطلاع الشيخ وقراءاته للعديد من الكتب المعمقة في المجالات المختلفة أثره الواضح في نبوغه وتميزه في وسطه. وبالخصوص في الجانب العقائدي وفي علوم الفلسفة والكلام والمنطق. فقد كان على سبيل المثال محاوراً جيداً للمرحوم العلامة السيد كاظم المدرسي، حيث كان السيد محباً له ولآرائه المناقضة للفلاسفة الجدد.
ظهر نبوغ الشيخ الثقافي في مؤلفاته وكتاباته. فهو خلّـف لنا نتاجاً ثرياً في التفسير والتاريخ وفي الفقه والثقافة العامة. هذا غير عطاءاته ونشاطاته الثقافية الاجتماعية، فلقد كانت محاضراته ودروسه في التفسير التي كان يلقيها بعد الصلاة ثرةً وعميقة بحق - لي قبل غيري- وأخص أيضاً تلك الباكورة التقنية الثقافية التي أراد بها أن يبتدئ نشاطه التبليغي والتوعوي في مجتمعه من خلال تأسيسه لشبكة مزن السابقة الذكر.. والتي سبق بهذه المبادرة الكثيرين من النشطاء اليوم في هذا الميدان.
الشيخ المبتلى..
لا بد أخيراً من التذكير بما كان يعانيه المرحوم «قدس الله سره» من مختلف صنوف الآلام والأمراض طيلة حياته تقريباً منذ صغره وإلى آخر يوم في عمره.. إلى درجة اضطراره إلى الراحة والبقاء في البيت لفترات طويلة. لكنه على الرغم من ذلك، ما أن يجد نفسه قد تعافى قليلاً حتى يسارع باستئناف برامجه ونشاطاته مكابراً لمرضه ووجعه. ولم يكن ليسمح للألم أن يدخل اليأس إلى قلبه والوهن والضعف في داخله للتخلي عن التزاماته ومسئولياته الدينية المجتمعية وهذا بالتأكيد لايتأتى من أي شخص كان وهذا ما أضاف إلى رصيده الحياتي بعدا آخرا في مسيرته الشخصية.