بيت يفتقر للقرآن لا تظلله أجنحة الرحمة


 
بيت تسكنه الأشباح، وتستوطنه الأوهام، ويلقي الظلام بأجنحته على كل زاوية فيه، وينشر الصقيع برودته في كل أنحائه فتنبعث رائحة الغدر والخيانة من أرجائه، وتعبث الشياطين بمقاديره إنه بيت لايسكنه القرآن وقد لحقت به لعنة الجن والشياطين وتفككت على أثر ذلك الأواصر وتمزقت أوشاج الأخوة وضاعت قيم الروابط الإيمانية، واستحكمت المصالح والمطامح فأصبح كل فرد في الأسرة ينظر إلى الآخر بمنظار تجاري بحت فإن من ينفعني ويعطيني ويفيدني هو الأكثر قرباً مني أما الذي لايملك شيئاً للعطاء فليس ذو قيمة، ومادام الاب يبذل جهده وعمره وجسده في سبيل العائلة فهو محترم ومقدر ومرفوع الشأن والمقام، وعند ما يصيبه العجز والوهن يصبح عديم الفائدة والإحترام، وقتها لابد أن يعض الأب على يده لأنه ربّى أبناءه على غير طريق القرآن، وإنتهج بهم إلى سبل معوّجة، فهم لن يحترموه ولن يقدروا أتعابه الماضية لأنه علمهم عدم شكرالله فكيف سيجازونه بينما هم يعتبرون ما فعله هو واجبه والمفروض عليه أن يقوم به وهو لايستحق على ذلك أي شكر.

بينما البيت الذي يسكنه القرآن تظلله أجنحة الرحمة، وتضيئه أنوار الهداية وتدفئه حرارة الإيمان، وتفوح منه رائحة الإخلاص والوفاء وتكتنفه أواصر المحبة والتعاون والإنسجام، لأن القرآن يلين القلوب ويكسر حدة القسوة والغضب ويؤلف النفوس على حب الله، فلا بغض ولا ضغينة على أمور الدنيا التافهة، ولا حسد ولا طمع على متاع الدنيا الزائلة، فمن يتيقن بالرحيل ويعد نفسه للقاء الحبيب يغض طرفه عن اللذائذ والمشتهيات ويلتهي عنها بما هو أعظم ويشغل نفسه بما هو أكبر، فلا ينازع أحداً على موائد ومصالح في حلالها حساب وفي حرامها عقاب.

القرآن يجلي القلب من متعلقات الدنيا، فيصبح المرء وهو في أشد العوز والحاجة عزيزاً شامخاً لأنه اكتفى بالقرآن عن كل شيء، ففيه العوض عن كل شيء، ويزود المرء بالصبر والاستقامة فلا يخضع ولا يركن ولا تجبره الحاجة إلى بيع دينه في سبيل متاع الدنيا، وهو يربي أبناءه على القرآن وعلى أخلاقه فيتخرجون من هذه المدرسة العظيمة وهم بشر بحق وحقيقة فيهم كل خصائص الإنسان الذي خلقه الله على الفطرة حيث مكارم الأخلاق والصفاة الحسنة.

ولم نجد كتاب بمثل القرآن يوصي الأبناء بإحترام وطاعة الوالدين وتعظيم شأنهم، وقد وصل الحال بتكريمهم إلى الحد بعدم عصيانهم حتى مع عدم إيمانهم، فكل العقائد والنظريات تضع الإيمان بها ميزاناً للتعامل مع الآخرين وعلى هذا الأساس ترفعهم أو تخفضهم بينما نجد القرآن يكرم الوالدين ليس بعبادتهم وطاعتهم لله بل لدورهم الطبيعي في الحياة وهو العطاء والبذل في سبيل خلق جيل جديد، ونلاحظ نفس الشيء بالنسبة إلى العلاقة بين الإخوان داخل الأسرة يجب أن تبنى على أساس المحبة والإحترام بغض النظر عن مستوى الإلتزام بالدين والإيمان.

وقد يظن البعض أن المؤمن يجب أن ينعزل في صومعته ولايحادث أخوانه ولايتواصل معهم لأنهم ضعيفي الإيمان والإلتزام بينما الإسلام يدعو إلى المحبة على أساس الإنسانية وإذا كان المرء مؤمناً فهو أولى من غيره بإثبات حسن النية وحسن السلوك، بمعنى أن يكون حسن الأخلاق والمعاشرة وأن يلتزم بكل المعايير الأخلاقية مع إخوانه في الأسرة الواحدة بغض النظر عن مستوى إيمانهم وإلتزامهم بالدين، والقرآن الكريم كما أنه يوصي بالعلاقات الطيبة بين الأبناء والآباء فإنه أيضاً يوصي بالتواصل والتواصي بين الإخوان، فلا يقطع المرء ما أمرالله به أن يوصل وهي صلة الرحم مع المقربين وخاصة الإخوان فلا يقطع هذه الصلة لأنها من الكبائر ويحاسب الله عليها في الدنيا قبل الآخرة، بتقصير العمر والرزق بينما من يوصلها يُجازى في الدنيا قبل الآخرة بطول العمر وسعة الرزق وقد أوصانا القرآن الكريم بتقديم المقربين بعمل المعروف، وأنهم أولى من غيرهم بالخير والمعروف الذي يقدر عليه المرء، فإذا كانوا بحاجة إلى العون فهم أولى به من غيرهم به وإذا كانوا بحاجة إلى النصيحة والمشورة فهم أولى بها، وإذا كانوا بحاجة إلى شيء والإنسان قادر على فعله فلا بد أن يقدمهم على غيرهم لأنهم أولى به، ومن لايصل خيره إلى أهل بيته فلا خير فيه ولاخير يرتجى منه.

إذن فالقرآن ينشر الرحمة في البيت، ويزيل العداوة والضغينة ويمنع القطيعة والبغضاء، فهو يربي افراد الأسرة ويحثهم على توطيد العلاقة وبث المحبة، ونزع الشحناء، وإحترام صلة الدم الموجودة داخل هذا البيت بغض النظر عن الموقف إزاء الدين، والقرآن أيضاً مطهّر للنفوس والقلوب التي جمعت حقداً وعدءاً نتيجة لتصرفات الآخرين، فالقرآن يوصي أفراد الأسرة بالتسامح والتنازل عن الهفوات والسقطات، لأن هذا البيت لايصلح أن يكون ساحة للحرب ما بين الافراد، إن أي شجار أو نزاع يحدث داخل الأسرة هوكفيل بتلبيد الأجواء داخلها وتنغيص الحياة على البقية، فلا تقول بأنه نزاع بين زوج وزوجة أو بين أب وإبنه، لأن آثار هذا النزاع ستمتد إلى كل أفراد الأسرة وخاصة بالنسبة إلى الأزواج فإن نزاعاتهم ذات تأثير مباشر على حياة أطفالهم، وقد يستغرب الأب ما يرى من ابناءه على مثل هذا السلوك إلا إن نزاعاته المستديمة مع زوجته تركت آثارها السيئة على شخصية الأبناء فملأتهم بالعُقد والنواقص.. إن الأبناءهم حصيلة أفعال الإنسان وكل ما يرتكبوه من أفعال شنيعة فإن للآباء نصيب فيه.

والقرآن يسهّل على الآباء العملية التربوية، لأن الأخذ بتعاليم القرآن يُغني عن الكثير من أحاديث الأب مع إبنه حول أمر، أو شأن من الشؤون، فبدل أن يستغرق الآباء في الكلام والحديث والنصيحة فإنهم يستطيعون من خلال تعليم القرآن لأبنائهم أن يستغنوا عن كل هذه الأشياء لأن القرآن هو الذي سيقوم بمهمة التوجيه والتعليم والتربية.
وليس الابناء وحدهم الذين بحاجة إلى القرآن الكريم، بل جميع أفراد الأسرة يجب أن يتعاهدوا قراءة القرآن وحفظ آياته والتفكر في معانيه ومطالعة التفاسير بشأنه، ليس لأجل الثواب فقط بل من أجل البركة التي يحتويها والألفة التي يوجدها في البيت، فليس هناك أفضل من القرآن ما يوحّد القلوب ويجليها بجلاء الإخلاص وينقّيها من رسوب الأحقاد، وينزع عنها العتو والعناد، فمعظم المشاكل الأسرية بين الزوج وزوجته أو بين الأب وإبنه أو بين الإخوان هي نابعة من العناد الذي يحركه الشيطان الرجيم، فيأتي القرآن الكريم ليسكب ماء التواضع والتنازل على نار العناد والتكبر ليطفأها بحكمته البالغة.

والقرآن هو أحسن الحديث للمتكلم فمن يريد أن ينطق بالحكمة فعليه بالقرآن، ومن يريد أن يحكي قصص التاريخ فعليه بالقرآن لأنه أصدق الحديث وأحسن القصص، ومن يريد أن يدحض الجهل بالعلم فعليه بالقرآن لأنه منبع العلم وأصله، ومن يريد أن يتفقه في الدين فعليه بالقرآن لأنه منبع العلم وأصله، ومن يريد أن يتكلم مع الله ويكلمه الله فعليه بالقرآن... فليس هناك كتاب يقرب الصلة بين العبد وربه مثل القرآن... فعليكم بالقرآن وإتخذوه إماماً لأنه يهدي إلى الجنة فقد جاء في الحديث الشريف أن منازل الجنة على قدر آيات القرآن، فمن يحفظ آية يرتقي مرتبة ومن يحفظ آيتين فله مرتبتين وكلما زاد حفظه إرتفعت مرتبته... فلا يكفي أن تكون مؤمناً وتطلب درجة منخفضة في الجنة، بل يجب أن تكون مؤمناً وتحصل على مرتبة عالية في الجنة من خلال حفظ القرآن، لأن القرآن بركة الدارين.