(32)
مقام الشاكرين
يبين الله تعالى في مقطع قصير من آية كريمة سبب إنعامه وإفضاله على قوم دون قوم بنعمة خاصة، وأن مرجع ذلك إلى كونهم من الشاكرين: (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ). فالكافرون في هذه الآية يتساءلون في تهكم واستهزاء بالمؤمنين الذين كان معظمهم من الطبقات الفقيرة ماديا: (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) إذ ينظر هؤلاء للثراء باعتباره معيار التأهل لتلقي النفحات الربانية الخاصة: (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ). ومن هذا المنطلق فإنهم يشككون في حقانية وخيرية نفس الرسالة السماوية: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ). وقد ردّ الله على تهكمهم باستفهام تقريري بأنه تعالى أعلم بالشاكرين. فمن هم الشاكرون الذين تأهلوا بحق للمنّ الإلهي الخاص؟
يستوقفنا هنا قول نبي الله يوسف (عليه السلام) في قوله تعالى: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ). فقوله: (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) بما يعني التوحيد الخالص الذي لا يشوبه أي شرك أبدا، هو ما أشار إليه بعد ذلك بقوله: (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) فهذا من المنن الخاصة التي اختص الله بها فئة من الناس تأهلوا لذلك بتحقيق الشكر الخالص لوجهه تعالى: (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ). فالناس في قوله: (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) قد يكون إشارة إلى أولئك الذين قال الله عنهم: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً). فالنبي إبراهيم (عليه السلام) بلغ أقصى المراتب العليا لأنه كان من الشاكرين الذين لم يشركوا بالله طرفة عين. يقول تعالى: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
إن الشكر هو الاعتراف بالنعمة على جهة التعظيم للمنعم، كما يقول أبو هلال العسكري في الفروق، وهو مفهوم مشكّك، كما يقول المناطقة، أي ذو مراتب مختلفة. ولكن حديثنا عن المرتبة العليا منه التي يختص بها المخلَصون من عباد الله الصالحين، وهم الذين ليس للشيطان عليهم سبيل أبدا. يقول تعالى على لسان إبليس لعنه الله: (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وقال في آيات أخَر: (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ). فبالجمع بين هذه الآيات يتبين أن عباد الله المخلَصين (بفتح اللام) هم الشاكرون حقا، أما أكثر الناس فهم كما قال تعالى: (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فإن إيمانهم قد يجامع الشرك أحيانا، مما يُنقص من مرتبة شكرهم، وبالتالي من تأهلهم لنعم الله ومننه الخاصة.
إن على من يريد السير في طريق الشكر أن يقتدي بتلك النماذج الرفيعة الذين أخلصوا لله في عبادتهم وكانوا من الشاكرين: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً). يقول تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).