(27)
غرور القوة
قال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية في الفرق بين القادر والقوي "إن القوي هو الذي يقدر على الشيء وعلى ما هو أكثر منه. ولهذا لا يجوز أن يقال للذي استفرغ قدرته في الشيء إنه قَوِيَ عليه، وإنما يقال له إنه قَوِيَ عليه إذا كان في قدرته فضل لغيره".
الحديث عن القوة غالبا ما ينصرف إلى استخداماتها السلبية في الاعتداء على الآخرين وسلب حقوقهم عن طريق توظيف ما بات يُعرف اليوم بفائض القوة لتحقيق ما يبتغيه القوي بفرض إرادته دون أي اعتبارات أخرى. وهذا ما حدّثنا عنه القرآن عن ذوي القوة من غير أهل الإيمان. يقول عن قوم عاد: (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ). فقد أمدّهم الله تعالى بأسباب القوة، فخلقهم أصحاب أجسام ذات بُنى ضخمة، كما قال تعالى: (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً). يقول صاحب التقريب: فقد كانوا أقوياء ذوي هياكل كبيرة عظيمة. وقال تعالى عنهم: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعىكَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) ، يقول صاحب مفاتيح الغيب: وهو إخبار عن عظيم خلقهم وأجسامهم. وقد اشتهروا عند العرب بضخامة أجسامهم ورجاحة عقولهم. يقول النابغة الذبياني: أَحلامُ عادٍ وَأَجسادٌ مُطَهَّرَةٌ مِنَ المَعَقَّةِ وَالآفاتِ وَالإِثَمِ كما أمدّهم بما ذكره سبحانه في سورة الشعراء بقوله: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ . أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ . وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). وكانوا أصحاب حضارة ومدنية فريدة، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ . إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ).
ولكنهم استخدموا هذه القوة في الاستكبار في الأرض: (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) مشتغلين بالملذات الدنيوية وإشادة الأبنية الفخمة على المرتفعات للتباهي والتفاخر، يبطشون بالآخرين دون رحمة.يقول تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ . وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ). فقد بلغ بهم الطغيان والعصيان ونكران النعمة مداه: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ).
لقد نبههم نبي الله هود إلى ضرورة الرجوع إلى الله تعالى كي تزداد نعمهم وخيراتهم، ويزدادون قوة ومنعة. فالنعمة والقوة مصدرهما الله تعالى: (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ). فكلتاهما بيده جلّ شأنه: (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ). ولكنهم لم ينتبهوا، وظلوا مستمرين في عنادهم وشقاقهم، مغرورين بقوتهم، مكررين مقالتهم: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، فكان أن حلّ بهم العذاب الأليم: (كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ . إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ . تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ).
وهكذا كانت نهايتهم، لأنهم لم يستثمروا قوتهم فيما ينفع الناس، بل سخروها لظلم الآخرين والاستعلاء عليهم. (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ).