(21)
اللغو القاتل الصامت
جاء في لسان العرب في معنى اللغو أنه: السَّقَط وما لا يُعتدّ به من كلام وغيره ولا يُحصَل منه على فائدة ولا نفع. وفي مفردات الراغب: اللَّغْوُ من الكلام: ما لا يعتدّ به، وهو الذي يورد لا عن رويّة وفكر، فيجري مجرى اللَّغَا، وهو صوت العصافير ونحوها من الطّيور.
وقيل بأنه كل كلام ساقط حقه أن يلغى، كالكذب والشتم والهزل.
قد لا ندرك حقيقةَ ما نصرفه من أعمارنا في أمور لا يُعتدّ بها، ولا تعود علينا بالنفع، بل إن ضررها محقق، لاستهلاكها أثمن ما لدينا، وهو العمر الذي يسير إلى النفاد منذ لحظة الولادة، فيما يعيق مسيرتنا نحو الرقي والتقدم. وهذا ما يخلق الفارق بين مجتمع يعي قيمة الزمن، فيستثمر كل لحظة منه في السير نحو غاياته وتحقيق طموحاته، وآخر لا يُعير للزمن انتباها، فلا يستيقظ إلا ساعة انقضائه: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
وإذا قلنا إن اللغو هو القاتل الصامت، فإنه بحق كذلك، فهو يفتك بحياة الإنسان، تماما كما يفعل ارتفاع ضغط الدم في الأجسام، حيث يمكن أن يصاب به الإنسان لسنوات عدة دون أن يشعر، ثم في لحظة مفاجئة يسقط صريعا لا سمح الله.
حين نراقب استهلاك أوقاتنا التي هي أعمارنا سنجد فيها مساحات واسعة من اللغو القاتل لها، وبخاصة في عصر انتشار الثقافة الرقمية الاستهلاكية التي تتسيدها التفاهة، وتسلط الأضواء فيها على أربابها. أما الجادّون الذين يسعون لإنتاج ثقافة راقية ملتزمة بالقيم، تساهم في تقدم المجتمع ورقيه، فإنهم لا يجدون من المتابعين إلا النزر اليسير.
القرآن الكريم ذكر في سياق تعداده لصفات المؤمنين الإعراضَ عن اللغو كصفة ثانية مشخِّصة لهم، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) وذلك بعد قوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)، مقدِّماً (عَنِ اللَّغْوِ) على كلمة (مُعْرِضُونَ) لزيادة الاهتمام بهذا الفعل والتركيز عليه ودوره في تحقيق فلاحهم.
يقول صاحب تفسير الميزان مبيّنا آثار هذا الإعراض: "والإعراض يقتضي أمرا بالفعل يدعو إلى الاشتغال به، فيتركه الإنسان صارفا وجهه عنه إلى غيره، لعدم اعتداده به واعتنائه بشأنه، و لازمه ترفع النفس عن الأعمال الخسيسة واعتلاؤها عن الاشتغال بما ينافي الشرف والكرامة وتعلقها بعظائم الأمور وجلائل المقاصد".
وفي تعداده لصفات عباد الرحمن يقول: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً). يقول صاحب تفسير التحرير: "ومعنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم، فجعَل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور.
ومعنى: مَرُّوا كِراماً أنهم يمرون وهم في حال كرامة، أي غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه، فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أَنِسوا بهم ووقفوا عليهم وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة".
وفي تعداده لصفات المؤمنين بالقرآن يقول تعالى: (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ).
فهذه الآية تبين أن اللغو من أفعال الجاهلين وممارساتهم التي ينبغي أن يبتعد عنها أهل الحِجى والحكمة الذين يطمحون أن يكون مقامهم: (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ . لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً).