(15)
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ
اغتنام الفُرص من أهم أسباب النجاح في الحياة. فالناجحون في أي مجال من المجالات هم أناس لديهم قدرة فائقة على إدراك الفُرص، ومن ثم السعي لاصطيادها واستثمارها أحسن استثمار. أما الآخرون فإنهم ينامون ملء جفونهم عنها، ثم يستيقظون على وقْع أقدام رحيلها، فتستولي عليهم الحسرة، ويعضون أصابع الندم، بل ربما ينهشونها نهشا، ولات ينفع الندم.
الناجحون لا يغيب عن أذهانهم أبدا القولُ الذي ذهب مثلا: وعند الصباح يحمد القومُ السُّرى. والسُّرى هو السير ليلا، كناية عن بالغ جدهم للوصول لمبتغاهم، وإن كلفهم ذلك المشقة والعناء والجهد الكبير. أما غيرهم فيغطون في سبات عميق، فيرون في مناماتهم، في أحسن الأحوال، أنهم قناصون مهرة للفرص، ثم يصحَون وأيديهم صُفر من كل شيء.
إن أكبر فرصة في الحياة هي الحياة نفسها. ومن يدرك هذه الحقيقة ويستوعبها استيعابها اللائق بها، فإنه سينتهزها لحظة بلحظة، محققا بذلك الهدف الأسمى منها، كما ورد في دعاء مكارم الأخلاق: وَاكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي الاهْتِمَامُ بِهِ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْهُ، وَاسْتَفْرِغْ أَيَّامِي فِيمَا خَلَقْتَنِي لَهُ.
يقول الإمام الحسن موجّها الأنظار لهذه القضية الهامة التي ينبغي أن تكون شغلنا الشاغل: يا بن آدم! إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، فإن المؤمن يتزود، والكافر يتمتع.
فالعمر في تناقص مستمر من أول لحظة منه، والإمام هنا يشير لمسلكين على طرفي نقيض. الأول: مسلك المؤمن الذي يكون في حالة تزود دائم بخير الزاد الذي ينفعه في رحلته القادمة للحياة التي وصفها القرآن بأنها الحيوان، أي الحياة الحقيقية: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). والثاني: مسلك الكافر المشغول بالمتعة الحاضرة واللذة العاجلة، كما قال تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
وفي ضوء (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) علينا أن نختار المسار الذي لا ينتهي بنا إلى تلك العاقبة الوخيمة. ففي قوله تعالى: (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) إخبار عن حقيقة لا مناص منها، وهي أن الكفار سيتمنون يوم القيامة لو أنهم أنصتوا لصوت الحق واتبعوا طريقه. أما كلمة (رُبَما) التي تفيد التقليل، فقد قال بعض البلاغيين بأنها تنبيه بالأدنى على الأعلى. قال الزمخشري في الكشاف: لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحقَّ عليك أن لا تفعل هذا الفعل. ومن البلاغيين من رأى "بأن المقصود في ذلك الإيذان بأن المعنى قد بلغ الغاية حتى كاد أن يرجع إلى الضد، وذلك شأن كل ما انتهى لنهايته أن يعود إلى عكسه". واستشهدوا لهذا الرأي ببيت أبي الطيب المتنبي:
ولَجُدْتَ حتى كِدْتَ تَبْخَلُ حائِلاً لِلْمُنْتَهَى وَمِنَ السُّرورِ بُكاءُ
يقول الشيخ ناصيف اليازجي في شرحه: لقد جدتَ حتى لم تترك في الجود غاية إلا انتهيت إليها. وحينئذ كِدتَ تحول إلى البخل لأنك قد بلغت منتهى الجود، كما يحول السرور عند اشتداده إلى البكاء.
وقد أخبر القرآن في آيات عديدة عن هذا التمني على لسان الكافرين الذين أضاعوا فرصة الحياة، فانتبهوا بعد فوات الأوان: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
يقول تعالى: (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). ويقول: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً).