نظرية جديدة في الفيزياء تدعي حلَّ أحجية الوعي
ملخص: لا يمكن اختزال الوعي بالنشاط العصبي وحده فقط، كما يقول الباحثون. تشير دراسة جديدة إلى أن ديناميكيات الوعي يمكن فهمها من خلال أطر مفاهيمية ورياضية طُورت حديثًا.
كيف ينبثق عن أنسجة دماغ تزن 1.4 كغم أفكارٌ ومشاعرٌ وصورٌ ذهنية وعالم داخليٌ؟ [المترجم: العالم الداخلي يتكون من أفكار ومشاعر وذكريات ورغبات، وقيم وغيرها مما ينعكس لاحقًا على العالم الخارجي(1)]،
لقد حيرت قدرة الدماغ على انتاج الوعي البعض على مدى آلاف السنين. يكمن سر الوعي في حقيقة أن كل واحد منا لديه ذاتية(2)، أي شيء يشبه الإحساس والشعور والتفكير.
على النقيض من حالة كوننا تحت التخدير أو غاطين في نوم عميق وهانيء بلا أحلام، عندما نكون يقظين "نكون على علم بما يدور حولنا" - نحن نحس ونشعر بالعالم حولنا وبأنفسنا. لكن كيف يكوِّن الدماغ التجربة الواعية / الشعور بالوعي [الشعور أو الاحساس بقدراتنا(3 - 6) وما هي المنطقة المسؤولة عن ذلك في الدماغ لا تزال أحجيةً محيرةً.
وفقًا للدكتور نير لاهالڤ Nir Lahav، الفيزيائي من جامعة بار إيلان، "هذه لا زالت أحجية إلى حد ما لأنه يبدو أن الشعور بالوعي لا يمكن أن ينبثق من الدماغ، وفي الواقع، لا يمكن أن ينبثق من أي عملية فيزيائية."
بقدر ما يبدو الشعور بالوعي(3 - 6) شيئا غريبًا، لا يمكن أن نجده في دماغنا أو نختزله بنشاط عصبي.
يقول الدكتور زكريا نعمة Zakaria Neemeh، الفيلسوف من جامعة ممفيس Memphis، "فكر في الشعور بالوعي بالشكل التالي، عندما أشعر بالسعادة. سيصدر دماغي نسقًا مميزًا من النشاط العصبي المعقد / المركب. هذا النسق العصبي سيتلازم تمامًا مع شعوري الواعي بالسعادة، لكنه ليس شعوري الفعلي. إنه مجرد نسق عصبي يمثل سعادتي. لهذا على الباحث الذي ينظر في دماغي ويلاحظ هذا النسق من النشاط أن يسألني عما أشعر به، لأن هذا النسق ليس هو الشعور بحد ذاته، بل هو مجرد تمثيل له ".
نتيجة لذلك، لا يمكننا اختزال وعي ما نحس ونشعر به ونفكر فيه بأي نشاط دماغي. يمكننا فقط إيجاد علاقة تلازمية بين النشاط العصبي وبين هذه التجارب.
بعد أكثر من 100 عام مرت على علم الأعصاب، أصبح لدينا أدلة جيدة جدًا على أن الدماغ
هو المسؤول عن تكوين قدراتنا الواعية
بعد أكثر من 100 عام مرت على علم الأعصاب، أصبح لدينا أدلة جيدة جدًا على أن الدماغ هو المسؤول عن تكوين قدراتنا الواعية. إذن كيف لم نتمكن من أن نجد الشعور بالوعي هذا في مكان ما في الدماغ (أو في الجسم) وكيف لا يمكننا اختزاله بأي نشاط عصبي معقد / مركب؟
تُعرف هذه الأحجية بمسألة الوعي الصعبة (أو معضلة الوعي(7)). فهي بالفعل مشكلة صعبة لدرجة أنه حتى قبل عقدين كانت مناقشتها مقصورة على الفلاسفة فقط، بل ولا زالت كذلك حتى وقتنا الحاضر، على الرغم من أننا أحرزنا تقدمًا هائلاً في فهمنا للأساس العلمي العصبي للوعي، لا تزال هناك نظرية غير كافية لتفسر ماهو الوعي وكيف تُحل هذه المشكلة الصعبة.
نشر الدكتور لاهڤ والدكتور نعمة مؤخرًا نظرية فيزيائية جديدة في مجلة فرونتيرز في علم النفس Frontiers in Psychology(8) تدَّعي أنها قادرة على حل معضلة الوعي بطريقة فيزيائية صرفة.
وفقًا للمؤلفين، عندما نغير افتراضنا عن الوعي ونفترض أنه ظاهرة نسبية، فإن غموض الوعي ينحل بشكل طبيعي. في الورقة المنشورة، طور الباحثان إطرًا مفاهيمية ورياضية لفهم الوعي من وجهة نظر نسبية.
وفقًا للدكتور لاهڤ، المؤلف الرئيس للورقة ، "ينبغي دراسة الوعي باستخدام نفس الأدوات الرياضية التي يستخدمها الفيزيائيون في الظواهر النسبية الأخرى المعروفة".
لفهم كيف تحل النسبيةُ المشكلةَ الصعبة، خذ أحد الظواهر النسبية المختلفة في الاعتبار، كالسرعة الثابتة. دعنا نختار راصدين اثنين، واحدة باسم أليس Alice والثاني باسم بوب Bob، بوب راكب في قطار يتحرك بسرعة ثابتة وترصده أليس من محطة القطار. لا توجد إجابة فيزيائية مطلقة على سؤال يتعلق بسرعة بوب. الجواب يعتمد على الإطار المرجعي للراصد.
من الإطار المرجعي لبوب، سيكون جوابه أنه ثابت وأن أليس هي التي تتحرك، مع بقية العالم المحيط، في الإتجاه المعاكس. ولكن بالنسبة لـ أليس، بوب هو الذي يتحرك، بينما هي ثابتة.
على الرغم من أن مقياسهما كانا متعاكسين، إلا أن كلا المقياسين صحيحان، ولكن من أطارين مرجعيين مختلفين فقط.
وفقًا للنظرية، لأن الوعي هو ظاهرة نسبية، فإننا نجد نفس الوضع في حالة الوعي.
الآن أليس وبوب هما في أطارين معرفيين مرجعيين مختلفين. فسوف يقيس بوب أن لديه تجربة وعي، ولكن لدى أليس فقط نشاط دماغي دون أي قرينة على الوعي الفعلي، على الرغم من أن أليس ستقيس أنها الشخص الذي لديه وعي وأن بوب لديه نشاط عصبي فقط دون أي قرينة على وجود وعي لديه.
تمامًا كما في حالة السرعة، على الرغم من وجود قياسين متعاكسين، كلاهما صحيح، ولكن من أطارين مرجعيين معرفيين مختلفين.
نتيجةً لذلك، بسبب وجهة النظر النسبية هذه، لا توجد مشكلة في حقيقة أننا نقيس خصائص مختلفة من أطر مرجعية مختلفة.
حقيقة أننا لا نستطيع أن نجد تجربة الوعي الفعلي أثناء قياسنا لنشاط الدماغ هي لأننا نقوم بالقياس من الإطار المرجعي المعرفي الخاطئ.
وفقًا للنظرية الجديدة، لا يكوِّن الدماغ شعورنا بالوعي، على الأقل ليس من خلال الحوسبة. السبب في أننا نشعر بالوعي هو بسبب عملية القياس الفيزيائي.
باختصار، تُظهر القياسات الفيزيائية المختلفة في أطر مرجعية مختلفة خصائص فيزيائية مختلفة في هذه الأطر المرجعية على الرغم من أن هذه الأطر تقيس الظاهرة نفسها.
على سبيل المثال، افترض أن بوب يقيس دماغ أليس في المختبر حينما كانت تشعر بالسعادة. على الرغم من أنهما يلاحظان خصائص مختلفة، إلا أنهما في الواقع يقيسان نفس الظاهرة من وجهتي نظر مختلفتين. نظرًا لاختلاف أنواع القياسات لديهما، فقد ظهرت أنواع مختلفة من الخصائص في أطرهما المعرفية المرجعية.
لكي يلاحظ بوب نشاط الدماغ في المختبر، يحتاج إلى استخدام قياسات لأعضائه الحسية مثل عينيه. يظهر هذا النوع من القياس الحسي الخلايا العصبية التي تسببت في نشاط الدماغ .
وبالتالي، في إطارها المعرفي، لدى أليس نشاط عصبي فقط يمثل وعيها، ولكن ليس لديها أي قرينة على شعورها بالوعي الفعلي نفسه. ولكن لكي تقيس أليس نشاطها العصبي على أنه شعور بالسعادة، فإنها تستخدم نوعًا مختلفًا من القياسات؛ ولا تستخدم أعضاءها الحسية، فهي تقيس تمثيلاتها العصبية مباشرة تلك بالتفاعل بين جانب من دماغها وجوانب أخرى. فقد قاست تمثيلاتها العصبية وفقًا لعلاقاتها مع التمثيلات العصبية الأخرى. [المترجم: التمثيل العصبي هو نمط من النشاط العصبي يمثل بعض السمات البيئية في طرق عمل الدماغ الداخلية (9)].
هذا قياس مختلف تمامًا عما يفعله جهازنا الحسي، ونتيجة لذلك ، يُظهر هذا النوع من القياس المباشر نوعًا مختلفًا من الخصائص الفيزيائية. نسمي هذه الخاصية بـ الشعور بالوعي (التجربة الواعية).
نتيجة لذلك، من إطارها المعرفي المرجعي ، تقيس أليس نشاطها العصبي كشعور بالوعي.
باستخدام الأدوات الحسابية التي تصف الظواهر النسبية في الفيزياء، تُثبت النظرية أنه إذا كان من الممكن تغيير ديناميكيات النشاط العصبي لـ بوب لتصبح مثل ديناميكيات النشاط العصبي لـ أليس ، فسيكون كلاهما في نفس الإطار المعرفي المرجعي وسيكون لهما بالضبط نفس الشعور بالوعي.
يرغب المؤلفان الآن الاستمرار في دراسة الحد الأدنى من القياسات الدقيقة التي يحتاجها أي نظام معرفي حتى ينتج وعيًا.
النتائج المترتبة على مثل هذه النظرية هائلة. يمكن تطبيقها للتعرف على أي حيوان كان أول حيوان في العملية التطورية لديه وعي، ومتى يبدأ الجنين أو الطفل بالشعور بالوعي، وأي من المرضى الذين يعانون من اضطرابات في الوعي يكون واعيًا، وأي أنظمة ذكاء اصطناعي لديها بالفعل درجة منخفضة من الوعي (لو كان لديها وعي).