أعمق من فكرة، أبعد من خيال
ستٌ وثلاثون بهجة عانقتْ شفتيَّ ومازال الفرحُ الكامنُ في صحائفِ الغيبِ يحجزُ له تذكرةً في الصفِّ الأولِ من ذاكرتي العاطفيّة.
سمعتُ أبي ذات مرةٍ يقول: "العلاقةُ التي لا يُساهم في بنائِهَا طرفان تهترئُ قاعدتُها بسرعةِ البرق" أبي الذي حفر الزمنُ أخاديدَه السمراءَ في جبينهِ ووجنتيه كان يتحدثُ بشكلٍ مطلقٍ، لكن ذات الذاكرة العاطفية التي أحملُها في طياتِ ذاتي كحقيبةِ سفرٍ مؤجلٍ تعيدُ مشاهدَها على مرأى الزمنِ أمامي. العلاقةُ ثنائيةُ القطبِ بيني وبين شهرِ رمضان المبارك حيثُ نسائمُ الطفولةِ تمنحني رئةً ثالثةً للتنفس!
(ما يعود ويحول عليه إلا طويل العمر يا وليدي) جملةٌ أسمعها من ثغرِ والدتي إبَّانَ كلِّ عيدٍ وهي ترفعُ إناءَ آخرِ سحورٍ مَدَّ باعِهَا إلى السماءِ مناجيةً ربّها بتمتماتٍ لا نسمعها لكننا ندرك يقينًا طهرَها المتجذرَ في ضميرِ الزمنِ.
لا امتداد كالحبِّ ولا صدى كالذاكرةِ ربّما لهذه المُسَلَّمَاتِ كان صيامي الأولُ يتكررُ في ذاتي كلَّ عامٍ، إنها ذاتُ الدهشةِ الأولى، ذاتُ القلقِ المتسمّرِ في أوصالي كلَّ ظهيرةٍ مخافةَ أن يسرقَني العطشُ فأصحو من نومي باحثًا عن كوبِ ماءٍ يأخذني من لهيبِ الظمأِ إلى واحةِ الرواءِ الظليلةِ، رغم معرفتي التامة بأن النسيان يجبُّ ذنبَ القصديةِ في الإفطار؛ لكنّهُ القلق!
أصواتُ قعقعةِ الأواني في المطبخِ الخشبيِّ القديمِ لم تُخْفِهَا تحفُ الرخامِ التي تزيّنُ الموقدَ الكهربائيَّ ورائحةُ العجينِ المختمرة منذ البارحة لم تغيِّرْهَا عُلَبُ العجائنِ الجاهزةِ التي تمتلئُ بها الثلاجة.
صوتُ أمي وهو ينهَرُنا ويمنعنا من الدخولِ بعد صلاةِ العصرِ إلى المطبخِ متتبِّعينَ رائحةَ الطعامِ كما يتتبعُ المفترسُ طريدتَه!
أيُّ طمأنينةٍ راسخةٍ تلك التي كانت تكتظُّ في حواسِّنا ونحنُ نفرشُ السجاداتِ مصطفّينَ خلفَ أبي والانتظارُ يأكلُ في أجسادِنا كَأَرَضَة؟
وعلى مقام الحجازِ الرصينِ يتسلّلُ صوتُ الأذانِ إلى صدورِنا بحميميةٍ أشبه بحضنِ أمٍّ حانيةٍ، "الله أكبرُ" والصمتُ يسودُ المكانَ سوى عن صوتِ الأذانِ ونظراتِ أبي المستبشرةِ وقرقرةِ البطونِ الفارغةِ والإحساسِ العميقِ بحاجةِ الفقيرِ الممتدةِ طيلةَ العام.
كل ما يشوبه الروتين قاتل إلا تقليدية هذا الشهر فالمطاعمُ الحديثةُ المستوردةُ من القارةِ العجوزِ لم تستطع ببهرجتِها سرقةَ اهتماماتِنا عن بساطةِ (الثريدِ) وعمقِ تأثيرِه! حتى الأسماء المستعارة التي أُطلقت على الأطعمةِ لا مكانَ لها في هذا الشهرِ، فلا (الباستا) تسرقُ هيبةَ (المعكرونة) ولا بيعة (للموهيتو) في رقابِنا أمامَ ولائِنا المطلق (للڤيمتو)!
هي العلاقةُ التي تتجددُ كلما باتَ الزمنُ طاعنًا في الزمن.
ولأن العادةَ تصبحُ عبادةً أحيانًا تتوزعُ الفوانيسُ في حارتِنا فوق أعمدةِ الطينِ ويكادُ صوتُ ترتيلِ القرآنِ الخارج من نوافذ ِالبيوتِ دالًا على هيبةٍ ملكوتيةٍ تكسو زوايا المكان بقدسيتِها.
أحاديثُ الأطفالِ الذين يلاحقون (المسحّرَ) أو (المسحّراتي) وهو يدُقُّ بطبلٍ ضخمٍ ويرتجزُ في الطرقاتِ أشبه بتمائمٍ نحرّزُ بها صدرَ الزمنِ مخافةَ أن يعودَ ولا نعودَ معه!
ولأن الحنين إلى شهرِ رمضان هو حنينٌ واشتياقٌ إلى اللهِ فهو يُمسكُ بتلابيبِ قلوبِنا ولا يُفلتها؛ فـ: "الشوقُ إلى اللهِ ولقائِهِ نسيمٌ يهبُّ على القلبِ يروحُ عنه وهجَ الدنيا"