محاضرة الليلة السادسة من محرم 1440 هـ
النّزعة المادية في تفسير الدين || سماحة الشيخ أمين محفوظ
قال تعالى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).
بعد أن أنجى الله بني إسرائيل من ظُلم فرعون وطغيانه ، وعبر بهم النبي موسى "ع" ذلك البحر وهم ينظرون للماء كالأطواد على جانبَي الطريق عاينو بأعينهم ولمسو تلك المعاجز العظيمة التي سخّرها الله على يد نبينا "ع" .. مرّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم مصنوعة من الأحجار وغيرها ، فانطلقت مُطالبات حثيثة من بني إسرائيل لموسى "ع" على أن يجعل لهم آلهة كهذه الاصنام لِيعبدوها.
وهذا السلوك مع مافيه من جُحود و نُكران لِنِعم الله تعالى بعدما نظروا للمعاجز الظاهرة و البيّنة إلا أنه يدل على الجهل و طبيعة التفكير ذو النزعة المادية ، فهم أُسَراء الطبيعة و المادة.
وهذه النزعة هي حالة مستمرة لِبني إسرائيل و نقطة ضعف عندهم ، كما أنها مرتبطة بمستوى تَعلّقهم بالمادة .. فيرتبط الإنسان بالمادة إلى أن يُصبح أسيرًا لها و تزحف إلى تفكيره وثقافته.
لذلك عندما نرى اليوم التوراة المُحرّفة عند بني إسرائيل لا نجد فيها ذِكراً للآخرة أو العقاب ، إنما يؤمنون بالثواب والعقاب في دار الدنيا فقط .. وهذا يُشير إلى نمطهم في التفكير.
فحضارة اليهود الموجودة في يومنا هذا تتجاهل أي أثرٍ له جانب غَيبي وهذا الأمر اِنعكس على طبيعة الثقافة و رؤية الإنسان لما حوله.
كما أن لها آثارًا كبيرة على العَوالم و الأُمم المحيطة بها .. و بسبب الغزو الثقافي انقسم المؤمنون بالدّين مابين رافضٍ للدين و مابين متمسّك.
ولكن انعكست الثقافة على نمط التفكير فأصبحت لديهم نزعة مادية في النظر للأشياء ، أي أنهم يَفِرّون من أي تفسير غَيبي .. فَتجد آثارها لدى بعض الكُتّاب و المُفسرين حين الوصول لبعض الآيات المتعلقة بالرُوح و البرزخ يعمد على تفسيرها بصورة مادية محسوسة ، كما أن بعضهم زَعم أن ما يوجد في القرآن الكريم من القصص ليست بِحَقائق واقعية و إنما مجرد طريقة رمزية اِستخدمها القرآن الكريم لإيصال بعض المضامين للمسلمين، أي أن كل ماله جانب غيبي -كالمعاجز- ليست حقائق.
فالنّزعة المادية لها بعض المناشئ الأساسية ، مهما :-
١-أن هذه النزعة محكومة بمحاولة تسويق الإسلام للأمم الأخرى.
قوانين الغيب تحيط بالإنسان من كل جانب ولكن الإسلام دين التوسط والإعتدال ، فلم يأتي وينتزع الإنسان من عالم الشهود والواقع المادي .. بل جعله يعيش في توازن.
فالنصرانية قد نزعت إلى الحالة الروحية بعيدًا عن المادة ، أما اليهود قد أوغلت في اعتبار المادة.
٢- حالة العجز و الكسل عن التفكير ، لأن القضايا المحسوسة تُرِيح عقل الإنسان .. فالبعض يزعم أن كُل ما وراء الطبيعة هو خرافة و مخالف للمنطق .. لكن الدين يقوم على الإيمان بالغيب ، حيث قال تعالى (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).
فهذه النزعة في غاية الخطورة و قد ترى البعض يرفض بعض الاحكام الشرعية بحجة هذه النزعة ، ولكن الحقيقة هي أن بُعد الغيب أساسي في تشكيل و تكوين شخصية الإنسان المؤمن.