القرآن والتعددية الدينية (2)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
علّق صاحب تفسير الكاشف على رأي صاحب الميزان الذي يقول بأن مفاد هذه الآية هو "أن الأسماء والتسمي بها مثل المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجرا ولا أمنا من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وإنما ملاك الأمر وسبب الكرامة والسعادة حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح" علّق على هذا الرأي بقوله: وليس من شك أن هذا المعنى صحيح في نفسه، ولكن اللفظ لا يعطيه صراحة.
ثم مال إلى رأي ثانٍ ذكره بعض المفسرين في المقام وهو "أن أفرادا لم يدركوا محمدا ، ومع ذلك قد اهتدوا بصفاء فطرتهم إلى الايمان باللّه، وتركوا المحرمات، كالكذب وشرب الخمر والزنا، ومن هؤلاء قس بن ساعدة، وزيد بن عمرو، وورقة بن نوفل، وغيرهم، ويسمون الحنيفيين، وكأنّ سائلا يسأل عن حكم هؤلاء عند اللّه. فأجابت الآية بأن هؤلاء لا بأس عليهم، وكذلك اليهود والصابئة والنصارى الذين لم يدركوا محمدا ، كي يأخذوا عنه التفاصيل، إنهم جميعا لا خوف عليهم، ما داموا على الإيمان باللّه واليوم الآخر، و العمل الصالح."
وكما نرى فإن كلا الرأيين لا يساعدان من يسعون للاستشهاد بالآية على مشروعية وحقانية التعددية الدينية.
أما صاحب تفسير الفرقان، فرأى أن الآية بصدد تحديد شاكلة الإيمان المنجي، فقال: فمن مات على غير الايمان بالرسالة الإسلامية موحدا: كتابيا من هود أو نصارى، أم غير كتابي كالصابئين والمجوس، «فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» شريطة القصور والاستضعاف حيث لم يسمعوا بهذه الرسالة أو لم يعرفوا حقها، دون المقصرين في التعرف إليها، أو الذين «جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا». فالجحد بآيات اللّه وتكذيب آيات اللّه ينافيان الإيمان باللّه، ونكران يوم لقاء اللّه ينقص من الإيمان باللّه، وترك الصالحات التي تناسب الإيمان، دليل على خواء الإيمان، فهؤلاء ليسوا من المبشّرين بالأجر وعدم الخوف والحزن، وإنما هم المؤمنون باللّه واليوم الآخر والعاملون الصالحات.
وفي ضوء هذا يمكن أن نفهم معنى قوله تعالى: (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ . يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ). فلا يمكن أن نتصور أن هذه الأمة القائمة من أهل الكتاب هي أمة قامت عليها الحجة البالغة بنبوة خاتم النبيين ثم لم تقبلها، ومع ذلك بقيت متصفة بتلك الصفات العالية المذكورة في الآيتين. فكيف تكون مسارعة في الخيرات، وهي لا تقبل بنبوة النبي محمد بعد قيام الحجة الفعلية عندها على ذلك؟!. إن هذا لا ينسجم مع قوله تعالى في شأن طائفة من أهل الكتاب كفروا بالنبي بعد معرفتهم بصدق دعواه: (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ)، ولا ينسجم مع قوله جل شأنه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً . أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً . وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً).
أخيرا بقي أن أنبه إلى أن حديثي هنا كله هو حول محاولة الاستشهاد بالآيات الشريفة على دعوى القول بمشروعية التعبد بأي دين، وأنها جميعا توصل إلى المطلوب، وليس حديثي عن الخلاص الأخروي وإمكانية شموله لطوائف من غير المسلمين، فذلك بحث آخر يحتاج لحديث خاص مفصل.