دقيقة تأمل
أحد الدروس المهمة التي ينبغي أن لا تغيب عن أذهان العاملين في مجال الإصلاح الاجتماعي هو أن التغيير عملية تراكمية مضنية لا تتحقق في مجتمع ما بين ليلة وضحاها. وكلما كان الشيء المبتغى تصحيحه راسخ الجذور في الحياة الاجتماعية العملية، يتعقد الأمر أكثر، ويكون التصحيح المتدرج وفق خطة مرحلية طويلة المدى أنجح وأنجع.
في القرآن الكريم الذي أنزله الله على عبده نجوما على مدى 23 سنة، وقال في شأنه: (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) أمثلة على اتباع التدرج في تصحيح بعض الأعراف والعادات والأحكام والممارسات الاجتماعية المستقرة التي لم تكن تلائم الشريعة ومقاصدها المتعالية.
ولنذكر على ذلك مثالين:
الأول: بيان حرمة الخمر
في البداية كانت هناك مقابلة بينه وبين الرزق الحسن في قوله تعالى: (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). وفي هذه المقابلة إشارة لا تخفى على ذوي الألباب بأن السّكَر أو الخمر قبيح لأنه ليس من الرزق الحسن، والله لا يحب إلا الحسَن. ثم جاءت آية أخرى تذكر مجمل ما حرم الله، وتعدُّ من بين ذلك الإثم، فتقول: (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) "لكن لم تبين أن شرب الخمر إثم إرفاقا في الدعوة إلى ترك عادة سيئة اجتذبتهم إليها
شهواتهم ونبتت عليها لحومهم وشدت عظامهم" وهاتان الآيتان مكيتان. ثم أوضحت آية أخرى مدنية بلسان الناصح أن في الخمر إثما كبيرا: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)، ثم خُتم الأمر بالآيتين الأصرح والأشد عبارة في التحريم، في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).
المثال الثاني: تشريع الإرث
ففي البداية كما يذكر بعض المفسرين أقر الإسلام ما كان عليه القوم في الجاهلية من توارث بالحلف والمعاهدة والمعاقدة، حيث كان الرجل يقول للرجل: دمي دمك، وذمّتي ذمّتك ومالي مالك، تنصرني أنصرك، وترثني أرثك. وقد استدل البعض على إقرار الإسلام لهذا العقد في بداية تشريع الإرث بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ). ثم لما آخى النبي بين المهاجرين والأنصار، جاء تشريع التوارث بالهجرة والأخوة في الدين. ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ). ثم نسخ الإسلام ذلك، وأتى بتشريع الإرث في شكله النهائي، فقال تعالى: ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ).
في أحيان كثيرة يقع المصلحون فيما يمكن أن نسميه (فخ الفرائس السهلة)، وذلك حين تستهويهم الوسائل والأدوات ذات التأثير اللحظي المؤقت، والتي لا تذهب عميقا في الجذور، مما يجعل مفعولها سطحيا سريع الزوال. أما الواعون من المصلحين فإنهم لا يتعجلون النتائج، لأنهم يدركون أنهم قد يموتون قبل أوان الحصاد، ولكنهم يصرون على تراكم العمل الطويل المدى العميق الأثر، مستحضرين في أذهانهم مثال بذرة شجرة البامبو العجيبة.