دقيقة أمل
نقد فوق النقد
لدى الكثير منا في المجتمعات الشرقية حساسية شديدة تجاه النقد، إذ يرى فيه تقليلا من حجم الشخص المنقود أو الجهة المنقودة. لذا فإن النظرة للنقد تكون في الغالب سلبية، وربما يجني المنتقد الأشواك من وراء نقده، في حين يحصد الساكت العنب.
وقد يرى البعض في النقد كشفاً لما يحسُن ستره، وإظهارا للمعايب، على خلاف ثقافة الستر التي يركز عليها ديننا الحنيف أيما تركيز. وقد يرى فيه بعض آخر إضعافا للبنية الاجتماعية وخلخلة لتماسكها. فهل الأمر كذلك فعلا؟!
الجواب لا يحتاج لكثير عناء عند التأمل في آيات الكتاب المبين. فالقرآن يزخر بالعديد من الآيات الناقدة لبعض المعتقدات والأفكار والممارسات سواء داخل المجتمع الإسلامي أو خارجه. ويمكننا القول واثقين بأن للقرآن الدور الأكبر في غرس ثقافة النقد لدى المؤمنين به. فقد قدم لهم النماذج التطبيقية في النقد، ووفر لهم المنهج الأصوب، وهو الذي يهدي للتي هي أقوم، الذي يمكنهم استخراجه من ثنايا آياته المباركات، ليستهدوا به في حياتهم العملية على كافة المستويات والأصعدة.
ويمكننا في هذه العجالة ذكر نموذجين:
النموذج الأول:
قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ).
نلاحظ في هاتين الآيتين التالي:
1- النقد موجه لفئة من داخل المجتمع الإيماني نفسه.
2- النقد لم يتوسل بلغة تعميمية، بل ركز على أصحاب الشأن فقط (فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ).
3- النقد لم يسلبهم ما هم متلبسون به من الإيمان، ولكنه توجه للحالة السلبية التي سيطرت عليهم (وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ).
4- النقد فصّل بعد إجمال سلوكهم الخاطئ، وأنه خلاف ما ينبغي من التسليم لله ولرسوله : (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ).
5- النقد أوضح أن سلوكهم لم يكن له أي تبرير منطقي أو شرعي: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ).
6- هدف النقد كما لا يخفى على المتأمل تقويم السلوك، ولذا كان التركيز عليه دون ذكر الأشخاص.
النموذج الثاني:
قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
نلاحظ في هذه الآية الشريفة ما يلي:
1- النقد موجه لفئة من أهل الكتاب، أي لجماعة من خارج الدائرة الإسلامية، ومع ذلك فإنه يتوخى العدل في عدم التعميم وفي ذكر الفئة الأمينة أولا.
2- ذكر السلوك الخاطئ مع توخي الدقة الشديدة في التعبير، ويظهر ذلك من خلال الإتيان بالاستثناء (إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا).
3- بيان ما وراء السلوك من اعتقاد باطل يبرره ويسوّغه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).
نماذج النقد القرآني كثيرة جدا، ويكفي من يريد الاستزادة الرجوع إلى سورة التوبة التي حفلت بالكثير من الآيات الناقدة حتى سميت بالفاضحة، كما روى ذلك القرطبي في تفسيره: قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة ما زال ينزل: ومنهم ومنهم، حتى خفنا ألا تدع أحدا.
علينا أن نتأمل تلك النماذج لنسترشد بهديها، ولنمارس النقد بأنقى صورة وأكملها، وحتى تشيع ثقافة النقد البناء بيننا كثقافة قرآنية عالية.