دقيقة تأمل : ضريبة لا بد منها
بلوغ الأهداف الكبرى يحتاج إلى ممارسة أعلى درجات الصبر والأناة. وعلى قدر الصبر والجد والاجتهاد يبلغ الأفراد أو المجتمعات ما يصبون إليه من أهداف بعد توفيق الله تعالى. ولأن الإنسان بطبعه عجول كما يذكر القرآن الكريم في قوله تعالى: (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ . وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وقوله: (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)، فإن التأني وممارسة النفَس الطويل لا يستطيعهما إلا قلة القلة، ولكنهم الناجحون في نهاية المطاف.
في مجتمعاتنا قد توجد رغبة عارمة لدى قطاع عريض من الناس في إحداث نقلة نحو الأفضل في حياتهم، وهذا شيء طبيعي نابع من فطرة الإنسان المجبولة على حب الكمال. ولكن المشكلة أن الكثير ليسوا مستعدين لدفع ضريبة الانتقال من الصبر المر والعمل المضني، فمعظمهم يتعجلون النتائج، ويريدون أن يقفزوا فوق سنن التاريخ.
لنتأمل في حوار نبي الله موسى مع قومه بني إسرائيل، وهو الذي جاء لإنقاذهم (مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ . مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ). فقد أوضح لهم طريق النجاة: (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فدرب الحرية طويل يتطلب المسير فيه الاستعانة بالقوي العزيز، والصبر على المكاره وعن اللذائذ، والتزام التقوى في كل الحالات. وكان الجواب منهم: (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) "فإذًا متى يحصل الفرج؟! وكأنّ بني إسرائيل مثل كثير منّا كانوا يتوقعون أن تصلح جميع الأمور بقيام موسى عليه السّلام في ليلة واحدة ... أن يزول فرعون ويسقط، ويهلك الجهاز الفرعوني برمته، وتصبح مصر بجميع ثرواتها تحت تصرف بني إسرائيل، ويتحقق كل ذلك عن طريق الإعجاز، من دون أن يتحمل بنو إسرائيل أيّ عناء" كما يقول صاحب تفسير الأمثل.
فكان جواب القائد الرسالي الملتزم بالصبر في أسمى مراتبه، باعتباره من أولي العزم الذين مدح الله صبرهم بقوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أنْ حثهم على التمسك بالأمل والرجاء، فالله خير مرجو وأكرم مدعو، وهو وحده القادر على تغيير الحال وتبديله: (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). وفي قوله: (عَسى رَبُّكُمْ) حيث أتى بلفظة (رَبُّكُمْ) إشعار لهم بعناية الله تعالى الخاصة بهم، وأن عليهم استحضار تلك العناية الربانية. ولم يفُتْ النبي موسى أن يبين لقومه أن انتصارهم على عدوهم، إنْ حدث، فهو لا يعني نهاية الابتلاء والامتحان، وإنما هو دخول في فصل جديد منه قد يكون أشد من السابق: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). فبعد التمكين يكون اختبار القوة والقدرة وكيفية إدارتهما. فقد ينجح البعض في امتحان ما قبل السلطة، ولكنه يسقط في امتحان السلطة سقوطا مدويا، ويفشل فشلا ذريعا.
إن القادة الربانيين لا يهبون الناس وعودا فارغة، ولا يُمَنّونهم بالأماني الكاذبة، بل يصدقونهم القول، ويوضحون لهم طريق المستقبل بآماله وآلامه، ويكونون هم النموذج الأعلى لما يدعون إليه غيرهم: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).