دقيقة تأمل
الصمت الناطق
"كلامه بيان وصمته لسان". بهذه الكلمات وصف الإمام علي حديث النبي حين يتكلم وحين يصمت، ففي كلتا الحالتين حديث ينبغي الإنصات إليه وفهمه. وكيف لا يكون كذلك وهو أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء.
وورد في كلام الإمام في صفة أهل البيت قوله: "هم الذين يخبركم حُكمهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو فيهم شاهد صادق، وصامت ناطق".
في القرآن الكريم الكثير من موارد الصمت الناطق، والذي يسميه البلاغيون الحذف. ويقولون إن الحذف يتوقف على أمرين: أحدهما وجود ما يدل عليه عند حذفه من قرينة، والأمر الآخر وجود المرجح للحذف على الذكر، وهو ما ينبغي أن نبحث عنه لاكتشاف وجه الترجيح وجماليات الصمت.
الأمثلة على الحذف في القرآن الكريم كثيرة جدا، مذكور بعضها في كتب البلاغة. من ذلك قوله تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) فلم يذكر نوع المسقي والمذود " لأن الغرض هو الفعل لا المفعول" كما يقول صاحب الكشاف.
سأركز هنا على حذف جواب الشرط وبعض أمثلته. لا بد أنك قرأت قوله تعالى في سورة يوسف: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فهل انتبهت إلى الجواب المحذوف الذي كنت تنتظره؟ وهل تساءلت عن سبب الحذف؟
ربما البعض لم ينتبه لذلك المحذوف، وبالتالي لم يطرح على نفسه السؤال السابق، وبالتالي يغيب عنه التأمل في المسكوت عنه. فالقارئ المتأمل يدرك أن الآية سكتت عن ذكر ما فعله إخوة يوسف بعد إجماعهم على جعله في البئر. فلماذا حضر الصمت هنا؟ وماذا يريد أن يقول؟.
إن حضور الصمت لعله يشير إلى أن المحذوف مما لا يناسب ذكره خصوصا في حق إخوة يوسف، أبناء النبي يعقوب، الذين كان المأمول منهم الوفاء بما وعدوه أباهم من حفظ أخيهم ورعايته. يقول صاحب تفسير الميزان: "وجواب لما محذوف للدلالة على فجاعة الأمر وفظاعته... فكأن الذي يصف القصة- عز اسمه- لما قال: «فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ» سكت مليًّا وأمسك عن ذكر ما فعلوا به أسى وأسفا لأن السمع لا يطيق وعي ما فعلوا بهذا الطفل المعصوم المظلوم النبي ابن الأنبياء ولم يأت بجرم يستحق به شيئا مما ارتكبوه فيه وهم إخوته وهم يعلمون مبلغ حب أبيه النبي الكريم يعقوب له".
مثال ثانٍ هو قوله تعالى في سورة النور: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ). فالآية التي بعدها لم تورد الجواب، فلماذا كان هذا؟
يقول صاحب تفسير روح المعاني: "وجواب لَوْلا محذوف لتهويله حتى كأنه لا توجد عبارة تحيط ببيانه". أليس غياب الجواب أبلغ من حضوره هنا، لأنه يحفز الذهن على أن يذهب بعيدا في تصور هَول ما دفعه الله تعالى بفضله ورحمته.
مثال ثالث، والأمثلة كثيرة، هو قوله تعالى على لسان النبي شعيب : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). فهنا جواب محذوف يشير إلى تحذير قوم شعيب في حالة عصيانهم من عاقبة مهولة لا يستطيعون تصورها وتقديرها.
إن القرآن ببلاغة الحذف هذه يرشدنا إلى أن نتعلم منه متى نمارس الصمت الناطق، فنبتعد عن فضول الكلام، ويصبح لصمتنا أثر إذا أحسنا وضعه في مواضعه الصحيحة.