دقيقة تأمل
قاعدتان قرآنيتان هامتان من ضمن القواعد الاجتماعية التي لا يستغني عنها أي مجتمع ينشد الحياة التي أشار إليها القرآن في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ).
القاعدتان مستلتان من قوله تعالى: (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)، تحض الأولى على التعاون الإيجابي البنّاء، وتنهى الأخرى عن التعاون السلبي الهدّام. فالتعاون هو العمل الجمعي الهادف لتحقيق أمر ما قد يكون خيرا وقد يكون شرا. فالأول ممدوح مدعو إليه، والثاني مذموم منهي عنه.
يقول صاحب تفسير مواهب الرحمن في بيانه لهذه الآية مؤكدا على أهمية قاعدة التعاون على البر والتقوى: "هذه الآية المباركة من جوامع الكلم الّتي تبيّن قاعدة من القواعد الّتي تبتني عليها سعادة المجتمع الإنساني، وركن من أركان الهداية الاجتماعيّة الّتي تقوم على التعاون بما ينفع الناس في دنياهم، وأساس مهم من أسس الاجتماع الإنساني.
وقد بنى الإسلام هذه القاعدة الاجتماعيّة المهمّة على ركيزتين، هما: التحلية بالتقوى والطاعة والعمل الصالح، ممّا يجعل المجتمع وحدة متكاملة له هدف معين ونظام واحد قويم، فأمر بالتعاون على البرّ، والتخلية عن أضدادها، وأكّدها بالنهي عن إعانة الإثم، أي: المفاسد كالبغضاء والعدوان ومساوئ الأخلاق وغيرها من الصفات السيئة ونهى عن كلّ ما يعوق عن تنفيذ هذا الحكم ويكون مانعا من تأثيره وسببا في الشقاء والحرمان، وهو العدوان الّذي يجعل أفراد المجتمع أعداء متباغضين ليس لهم هدف ونظام، بل يفكّك عرى المجتمع ويهدّد كيانه ويفسد سعادته".
ولنا مع هذه الآية وقفات:
1/ المجتمع المؤمن الناجح هو مجتمع متكاتف مترابط يتعاون أفراده في سبيل الخير.
2/ لسعادة المجتمع لا يكفي التعاون على البر والتقوى، بل لا بد من حصول عدم التعاون على الإثم والعدوان.
3/ القواعد الاجتماعية ينبغي أن تصاغ بطريقة واضحة مباشرة جامعة مانعة وبعبارات مركزة.
4/ البر هو حسن العمل، ومصاديقه واسعة شاملة لكل خير. يقول تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ويقول: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) ويقول أيضا: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
5/ كي ينجح العمل الجمعي يجب أن يرتكز على دعامتين: البِر والتقوى. الأولى تحدد نوعية العمل وأنه لا بد أن يكون (بِرا)، والثانية تعيّن قواعده وإطاره وتُبعده عن النزاعات والصراعات.
6/ المجتمع الفاشل هو الذي يتعاون على الإثم والعدوان. والإثم يدل بحسب أصله كما تقول معاجم اللغة على البطء والتأخر، يقال: ناقة آثمة أي متأخرة. فذو الإثم بطيء عن الخير متأخر عنه. وأما العدوان فهو التجاوز والتعدي على حق الآخر، أيا كان الآخر من دماء وأعراض وأموال وبيئة وغيرها.
7/ لما كان الإثم مقابلا للبر فإننا يمكن أن نفهم من مقتضى المقابلة أن معنى البر يتضمن المسارعة في الخير. تماما كما أن العدوان الذي يمثل انتهاكا للحقوق يقابل التقوى التي تعني حفظ تلك الحقوق ومراعاتها.