دقيقة تأمل
معادلة المستكبرين والمستضعَفين معادلة تاريخية تسعى فيها الفئة الأولى من خلال استثمار ما لديها من أسباب القوة الظاهرية لفرض هيمنتها على الفئة الثانية. ويعتمد مدى نجاحها في تلك المهمة على مُعامل القابلية للاستضعاف لدى الطرف الآخر، وبعبارة أخرى على ضعف الجهاز المناعي المقاوم للاستضعاف. وفي ضوء هذه الحقيقة يمكن أن نفرق بين فئتين: الأولى مستضعَفة مُدجَّنة والثانية مستضعَفة محصَّنة، وهي تلك التي عناها القرآن الكريم بقوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).
أما المستضعَفة المُدجَّنة فهي التي غيبت عقلها وإرادتها وأسلمت قيادها لغيرها، ولم تدرك فداحة خسرانها إلا بعد فوات الأوان وإطلاق صافرة النهاية. وقد فصّل القرآن ذكر المشاهد والمواقف التي تحدث يوم القيامة بين هذه الفئة من جهة والمستكبرين من جهة أخرى، حيث يسود مناخ من التلاوم العنيف، ومن تبادل لقذائف الاتهامات. وإليك نماذج منها:
1- نموذج تبادل الاتهامات حول مسؤولية الضلال أو الإضلال. يقول تعالى في سورة سبأ:
(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ . وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
وفي هذه الآيات أكثر من وقفة نختار منها اثنتين: الأولى أنها تجمع المستكبرين والمستضعفين تحت صفة واحدة هي (الظَّالِمُونَ)، لأن المستضعف الخانع ظالم لنفسه لتمكينه المستكبر من السيطرة عليها، ولذا فهو شريك له في جريمته. والثانية أنها تضع عنوانا عاما بليغا مشيرا لما يقوم به المستكبر من عمل ماكر دؤوب لتضليل الآخر وخداعه وسلب إرادته، وذلك العنوان المختصر هو (مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ).
2- نموذج طلب العون المستحيل عند المساءلة المكشوفة. يقول تعالى: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ). فالضعفاء هنا هم المستضعفون المقصرون الذين عطلوا عقولهم وإرادتهم، وسلموا زمام أمورهم للمستكبرين (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً)، ولكن المستكبرين في ساعة الحقيقة يعرضون عنهم ويسلمونهم للقضاء الذي لا مرد له.
3- نموذج الحوار الانسدادي في النار. ونقصد بالانسدادي الذي لا يؤدي إلى مخرج أبدا. يقول تعالى في سورة غافر: (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ . قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ . وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ . قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ).