دقيقة تأمل
يستطيع الطبيب من خلال ما يسمى بالعلامات الحيوية للجسم اكتشاف بعض المؤشرات على صحة المرء أو اعتلاله. وقد يحتاج بالإضافة للفحص السريري إلى الاستعانة ببعض التحاليل والأشعة لتشخيص حالة المريض. المهم أن هناك بروتوكولا معيّنا يتبعه ينتقل فيه من المعلوم للمجهول.
هذا عن جسم الإنسان، فماذا عن نفسه؟! كيف يكتشف قوة إيمانها من ضعفه؟! ما هي العلامات الحيوية التي يمكن أن تُشير إلى مرتبة نفسه؟ هل هي مطمئنة أو لوامة أو أمارة بالسوء؟!
حين ترتفع درجة حرارة أجسامنا، ونصاب بالإعياء، ندرك أن صحتنا ليست بخير، وأن علينا مراجعة الطبيب حتى لا يتطور الأمر لما هو أسوأ لا سمح الله، وحتى نتخلص من الآلام ومضاعفاتها. لكن كيف نشعر بارتفاع حرارة النفس أو اختلال ميزان نبضها أو ضغط الدم فيها؟!
لعل إحدى أهم العلامات الحيوية لقياس صحة النفس تتمثل في مدى الإحساس بالذنب عند مقاربته. ففي أدنى المقياس يكون التبلد المطلق الذي هو حالة موت دماغي للشعور بالذنب، بل ربما يتبجح بمعصيته ويفرح بها. ولذا ورد عن الإمام علي بن الحسين : "إياك والابتهاج بالذنب، فإن الابتهاج به أعظم من ركوبه". وقد يرى المتبلد معصيته أمرا محبوبا نتيجة لإصابته بعمى البصيرة: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً). وفي أعلى المقياس يكون الإحساس المرهف المتوتر الذي يتجلى في تأنيب الضمير تأنيبا قاصفا، وفي الندم الخنجري المُدمي للنفس إدماء مبضع الجراح الخبير، وفي الحزن المستولي على الكيان كله أسفا وحسرة على ما صدر من ذنب. وبين التبلد المطلق والإحساس المرهف المتوتر درجات على مقياس الإحساس.
يصور الله تعالى في آية كريمة مشهد ثلاثة من المؤمنين تخلفوا عن الالتحاق بجيش رسول الله في غزوة تبوك، ثم لما عاد النبي إلى المدينة حاولوا أن يعتذروا عن خطئهم، فلم يكلمهم ، وقاطعهم المجتمع من حولهم، وامتدت المقاطعة إلى بيوتهم، فشعروا بالندم على ما فعلوا، وفارقوا الأهل وذهبوا لخارج المدينة منقطعين لله تعالى انقطاعا تاما مبتغين مغفرته وقبول توبتهم. وبعد خمسين يوما من التضرع الصادق، جاءهم الفرج الذي انتظروه طويلا بعد حالة الضيق التي استولت عليهم مما حولهم ومن أنفسهم. يقول تعالى: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
ذلك هو المستوى الرفيع من الإحساس بعِظَم الذنب والذي ينبغي أن يسعى لتحصيله كل واحد منا. فالذنب مهما صغر فإنه يظل عظيما باعتباره معصية للخالق جل وعلا، فقد ورد عن رسول الله : "لا تنظروا إلى صغر الذنب ولكن انظروا إلى من اجترأتم".
راقب نفسك جيدا عندما تهم بمعصية أو تقترفها لا سمح الله، وقم بقياس مستوى إحساسها وعمق ندمها على ما وقع منها، ثم اقرأ مؤشر اللوم لديها (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)، وستعرف ذلك من نفسك من خلال ما زودك الله من أدوات صادقة لا تجامل أبدا (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ). وتذكر أن الندم مؤشر صحي إذا أُتبع بخطوات التصحيح المناسبة. يقول الإمام السجاد في مناجاة التائبين: إلهي إن كان الندم على الذنب توبة، فإني وعزتك من النادمين، وإن كان الاستغفار من الخطيئة حطة فإني لك من المستغفرين، لك العتبى حتى ترضى.