دقيقة تأمل
6-1-2016
لا شك أن الحكمة من أهم صفات القيادة، إذ بها تكون سلامة الرؤية ووضوحها، وبممارستها على أرض الواقع يمكن اجتياز المحن والأزمات بأدنى الخسائر وأعلى المكاسب. وحين تهرب الحكمة من فرد أو مجتمع أو أمة لغياب حاضنتها، فإن الطريق سيكون مُعبدا أمام المسيرة العشواء التي لا تحكمها ضوابط، ولا تهتدي أبدا إلى سواء السبيل.
ويكفي لبيان أهمية الحكمة ومكانتها وعظيم شأنها قول الله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ). ولعل قوله تعالى: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) يضيء لنا معنى الخير الكثير الذي لم تفصح عن سعته الآية، وذلك بمقارنته بالعلم الموصوف بالقليل رغم ما نشهده من انفجارات معرفية واسعة نظنها محيطات، وهي لا تعدو كونها في الحقيقة خلجانا أو بحيرات ضيقة أو أدنى من ذلك.
الحكمة هي الموقف السديد المبني على التشخيص الدقيق للموضوع والذي يأخذ في اعتباره كافة العوامل المؤثرة فيه، منطلِقا من رؤية استشرافية واضحة تنأى بنفسها عن الحالات الانفعالية غير المدروسة، والحكيم "هو الذي يُحكم الأشياء ويتقنها". وقد وصف الله سبحانه نفسه بالحكيم في أكثر من تسعين موضعا من القرآن الكريم، مع اقترانها غالبا بصفة (العزيز) متقدمة عليها دائما كقوله تعالى: (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، ثم بصفة (العليم) متقدمة على (الحكيم) غالبا ومتأخرة أحيانا كقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ). كما اقترنت بصفات أخرى كالخبير والحميد والتواب. وهذا بحد ذاته يحتاج لدراسة عميقة لمعرفة بعض أسرار ذلك من تقديم وتأخير وتعريف وتنكير ومواءمة السياق والعلاقات الارتباطية بين تلك الصفات.
أما مفردة (حكمة) فقد وردت في 20 موضعا من القرآن، ونُصّ على أن تعليمها من مهام النبي الأكرم : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)، وجُعلت من متممات الملك المُفاض من الله: (وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ).
لقد كانت سيرة المصطفى تتفجر بالحكمة في كل مشهد من مشاهدها، وهو ما ينبغي تسليط المزيد من الأضواء عليه في زمن صارت فيه الحكمة من أندر العملات. ونذكر هنا موقفا من مواقفه الحكيمة مختصرا، ننقله ببعض التصرف من كتاب الإرشاد:
في غزوة حنين قسم رسول الله الغنائم في قريش خاصة، وأجزل الغنائم للمؤلفة قلوبهم، وقيل: جعل للأنصار شيئا يسيرا. فغضب قوم من الأنصار لذلك. فكيف تصرف سيد الحكماء لما بلغه ذلك؟
لنضع ذلك في خطوات:
1- دعا الأنصار لاجتماع عاجل لهم وحدهم فقط.
2- في الاجتماع اختار أن يجلس وسطهم، وفي هذا الفعل دلالات كثيرة.
3- قام بتقريرهم وتذكيرهم بما أسداه لهم من نِعم بطرح استفهامات تقريرية، كقوله: " ألستم كنتم ضالين فهداكم الله بي؟"، وكان الجواب منهم: بلى، فلله المنة ولرسوله.
4- سكت هنيهة لمنحهم فرصة التأمل والتفكير.
5- طلب منهم أن يردوا عليه، فكان جوابهم: بم نجيبك فداك آباؤنا وأمهاتنا، قد أجبناك بأن لك الفضل والمن والطول علينا.
6- قام بتلقينهم كيف يجيبونه، مبينا فضلهم ودورهم في نصرته، فقال: " أمَ لو شئتم لقلتم: وأنت قد كنتَ جئتنا طريدا فآويناك، وجئتنا خائفا فآمناك، وجئتنا مكذَّبا فصدقناك".
النتيجة: تأثر الأنصار كثيرا لذلك، واعتذروا لرسول الله ، وأوضحوا له أن ما حدث من بعضهم كان خوفا من أن يكونوا قد قصروا في نصرته، وأبدوا رضاهم قائلين: رضينا بالله وعنه، وبرسوله وعنه، وهذه أموالنا بين يديك، فإن شئت فاقسمها على قومك". وطلبوا منه أن يستغفر لهم.
7- أجابهم النبي وقام فوق ذلك بتطييب خواطرهم، إذ قال: "اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار. يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاة والنَّعَم، وترجعون أنتم وفي سهمكم رسول الله؟". فكان جوابهم: بلى رضينا.
كان بإمكانه أن يكتفي بزجرهم وإسكاتهم مستخدما سلطته ونفوذه، ولكنه معلم الحكمة الأول (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).