دقيقة تأمل
4-1-2015
من صفات القيادة التفاعل مع إنسان محيطها تفاعلا اندكاكيا؛ تستشعر حاجاته، وتراعي أحواله، وتحزن لحزنه وتفرح لفرحه، وتحرص على مصالحه، وتتألم لأي مكروه أو أذى يصيبه، وتشفق عليه وتغمره بالرأفة والرحمة.
وقد تجلت هذه الصفات في أعظم شخصية قيادية عرفها التاريخ البشري، وهو النبي الأكرم والذي قال عنه الله تعالى: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فذكر خمس صفات له تدعو لاتباعه، وهي صفات ينبغي أن يتمثلها كل قائد بحسبه، استنانا بسنته والتزاما بهديه ، فهو خير أسوة يتأسى بها المتأسي.
الصفة الأولى: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ)، وفي هذا إشارة إلى غاية القرب منهم؛ يعرفهم ويعرفونه، ويعيش فيهم وبينهم كأحدهم، لا يميز نفسه عليهم، حتى إن الوافد الغريب إذا أتاه وهو ومع أصحابه لا يستطيع تمييزه من بينهم، فيسأل: أيكم محمد؟ أو أيكم ابن عبد المطلب؟ أو أيكم رسول الله، كما ورد في الروايات عن أحواله .
الصفة الثانية: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) والمعنى أنه يصعب عليه بدرجة شديدة ويتأثر غاية التأثر لأي مشقة تصيبكم أو تعب ينتابكم دون أن يدفعه أو يرفعه عنكم. فهو يتفاعل مع آلامهم أشد التفاعل، ويسعى للتخفيف عنهم، كما يريد ربه جل وعلا: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)، وهو ما بينه تعالى في قوله: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ).
الصفة الثالثة: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) فهو شديد الحرص على استنقاذهم من براثن الجهل والشرك والخوف والتخلف، والسمو بهم إلى مراقي العلم والتوحيد والأمن والتقدم والحياة الشريفة الكريمة. يقول تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ).
الصفة الرابعة والخامسة: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)، وهنا سماه الله تعالى باسمين من أسمائه وأسبغ عليه صفتين من صفاته، فهو جل اسمه الرؤوف الرحيم كما قال عن نفسه (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)، وهما صيغة مبالغة في الرأفة والرحمة. والرأفة كما يقول صاحب التحقيق في كلمات القرآن الكريم تعني "الشفقة الشديدة بحيث لا تقبل وقوع ألم ولا توجب كراهة ما ولو كانت لمصلحة. وأما الرحمة فهي مطلق ظهور الرأفة ويلاحظ فيها الصلاح والخير ولو كانت ملازمة الألم والكراهة، كما في معالجة المريض بما يكرهه.
فالرأفة أقوى وأشد من جهة الكيفية، والرحمة أعم من جهة الكمية والمصاديق وأكثر موردا".
إن هذا النموذج القيادي الفريد إذ نقدمه للعالم كله ليتعرف عليه وعلى سيرته العطرة، يجدر بنا، بل يجب علينا نحن المسلمين عموما، والمتبوئين للمواقع القيادية خصوصا بذل أقصى الجهود للتشرف بتلك الصفات الحميدة والخصال الرشيدة، فالمهم هو التطبيق العملي لتلك السيرة الناصعة. لنتأمل في الرواية التالية عن أنس بن مالك والتي تكشف بعض جوانب شخصية النبي القيادية ومدى حلمه وعطفه وكرمه ومراعاته وتفهمه للآخر. يقول أنس:
"كنت مع النبي وعليه برد غليظ الحاشية فجبذه أعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيريَّ هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبي. فسكت النبي ثم قال: المال مال الله وأنا عبده.
ثم قال: ويُقادُ منك يا أعرابي ما فعلت بي؟ (أي هل يُقتص منك؟). قال: لا. قال: لمَ؟ قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة. فضحك النبي ثم أمر أن يُحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر".
تُرى أي قائد عظيم هذا، وأي بون شاسع بيننا وبينه!