سلسلة نحو ثقافة قرآنية (16)
حقائق مدهشة من اليوم الموعود
قال الله تعالى:
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(1).
مشاهد القيامة:
كثيرة هي الآيات التي تتحدث عن يوم القيامة ومشاهده الباهرة، فتخطّ حقيقة دينية هي الآن في رحم الغيب، وستأتي يوماً وإن طال السرى، وسيعيشها الكلّ مشاهدة وإحساساً، وإن حكّم البعض في الدنيا فيها أهواءه وآراءه المادية، أو حاول السخرية من ذلك اليوم واستبعاده؛ ليفلت من ربقة الضمير والمسؤولية، ويقتنص اللذة والشهوة، ويلهو بالفجور والمعصية: ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾(2).
ويوم القيامة له مشاهد عدة، ومحطات كثيرة، منها:
1- النفخة الأولى في الصور:
وهي نفخة الموت والفناء، وهي النفخة التي تنفطر فيها السماء وتنشقّ، وتضحي وردة كالدهان، وتذوب كالمهل، وتتكوّر فيها الشمس، وينشقّ القمر، وتتناثر الكواكب، وتتفجّر البحار وتستعر، وتتطاير الجبال كالصوف المنفوش!!؛ فتؤذن بنهاية العالم، ويموت فيها الأحياء، ويفنى الوجود!!: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾(3)، ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾(4).
2- النفخة الثانية في الصور:
وهي نفخة في الصور وصيحة مدوية تدعو إلى شيء نُكُر، هو سوق الناس إلى البعث والنشور، فتستجيب الأرض لنفخة الصور وصيحة البعث، وتشقق عن الناس، فـ ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾(5)، خُشعاً أبصارهم ترهقهم ذلة، متناثرين كالجراد المنتشر، ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾(6)، ﴿مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾(7)، ويمضي الجميع نحو ساحة المحشر.
3- الحساب:
حيث تُنصب موازين العدل، وتُنشر الصحف، ويُؤتى بالرسل والأشهاد، فتُعرَض عليهم أعمال العباد وتوزن، ويُحاسبون عليها، فيحاسب المؤمنون حساباً يسيراً، ويحاسب الكافرون والعصاة حساباً عسيراً، وتتطاير الكتب، فيأخذ المؤمنون كتبهم بأيمانهم، ويأخذ الكافرون والعصاة كتبهم بشمائلهم ومن وراء ظهورهم، ويُفضَح البعض على رؤوس الأشهاد، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾(8)، ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا﴾(9).
4- الجزاء:
فيكافأ المؤمنون بالجنة، حيث النعيم الباذخ المقيم: معنوياً ومادياً.. يتقلّبون في رضوان الله وبحبوحة خيرات الجنان، ويسكنون القصور، ويفجّرون الأنهار، ويشربون العسل والخمر واللبن، ويأكلون الفواكه واللحوم، ويجلسون على الأرائك والأسرّة متقابلين يتضاحكون، معهم الحور العين والولدان المخلدون، ﴿يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(10)، ويرفلون فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إنّه نعيم يتطاول على أعتى خيال مجنّح!!
ويُجزى الكفار والعصاة بالنار حيث العذاب المعنوي والمادي، يتقلبون في نار السخط ونار الجحيم، ويأكلون من غسلين، ومن شجرة الزقوم، ويُسقون من ماء صديد، ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾(11)، ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾(12)، يتجرّعون ﴿نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا﴾(13).
ويمكث الكفار في النار ﴿لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾(14)، والمجرمون في لظى عذاب ﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾(15)، يتصايحون من شدة وقدته: ﴿يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ﴾(16).
ثمّ تتدارك الرحمة والشفاعة العصاة الموحدين، فيخرجون من النار إلى الجنة.
وقد جمعت آيات سورة الزمر هذه المواقف الأربعة والمحطات المتتابعة، فقالت:
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(17).
كما جمعتها آيات سورة يس:
﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(18).
المدهشات الأخروية في سورة الزلزلة:
وآيات سورة الزلزلة رسمت لوحة تبرز مشهداً من مشاهد نهاية العالم (النفخة الأولى)، ومشهداً من مشاهد البعث والنشور (النفخة الثانية)، وتتكلم عن الغرائب المدهشة في ذاكما المشهدين المفزعين، ومنها:
1ـ الزلزال العام للأرض:
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا﴾:
تأتي الآية مصدّرة بـ (إذا) الشرطية الحينية الدالة على المستقبل، الرابطة بين الأحداث، كما يأتي الفعل بعدها مبنياً للمجهول ﴿زُلْزِلَتِ﴾، مع أنّه معلوم أنّ التقدير: زلزل الله الأرض زلزالها؛ لكي يفتح المجال خصباً للتركيز على الحدث، كما فعلت كثير من آيات القيامة الأخرى، كقوله تعالى:
- ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾(19).
- ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾(20).
- ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ﴾(21).
- ﴿أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾(22).
- ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾(23).
كما أنّ (أل) في قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ استغراقية بمعنى (كلّ)، تفيد العموم والشمول والسعة، فهذا الزلزال ليس موضعياً جزئياً، يصيب بقعة من الأرض، بل هو زلزال عام شامل سيخضّ الأرض، كلّ الأرض!!
وهذا ما لم تعهد البشرية مثله من قبل، صحيح أنّها شهدت زلازل في اليابان وأندونيسيا وإيران والجزائر وغيرها..، بعضها محا جزراً أو مدناً من خارطة الوجود، أو فصمها، لكنّ هذه الزلازل لم تكن تتجاوز منطقة محدودة ومعيّنة لا تمتدّ - غالباً - إلى دولة كاملة في وقت واحد، عوضاً عن أن تشمل الكرة الأرضية أجمع - كهذا الزلزال المرتقب المريع الذي تذكره السورة -.
ولقد كان القرآن دقيقاً حين لم يقل: إذا زُلزلت الأرض زلزالاً - بالتنكير -، فالتعريف في قوله: ﴿زِلْزَالَهَا﴾ يفيد الاختصاص والعهد، إنّه زلزالها الوحيد والمحدد والخاصّ الذي تترقبه بتلك الضخامة والعظمة والشمول، فهو ليس أيّ (زلزال) عابر مرّ على تاريخها، زلزال لم تشهد الأرض مثله، ولن ترى بعده مثله، ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾(24).
2ـ إخراج الأرض ما ادخرته في أحشائها:
﴿وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا﴾.
ألفت البشرية في الزلازل الأرضية أن تهتزّ الأرض وتتشقق، فتهدّم ما على الأرض وتنسفه، أو تلتهم أشياء مما على وجهها، وتذلقها إلى بطنها، لكنّها لم تألف زلزالاً يُلقي ما بداخل الأرض إلى الخارج، ربّما يكون شيء من ذلك حصل في الدنيا في صولة البراكين.
ويمكن أن نعرف مقدار ما يتركه الفرق بين الأمرين: إذا علمنا ما فوق الأرض، وما يختبئ في أحشائها:
ما فوق الأرض معهود مشاهد من وجودات طبيعية وصناعية: أناس، حيوانات، نباتات، جمادات، بنايات، و....
لكنّ ما بداخل الأرض مختلف مفزع: فهناك موتى من البشر، وهناك وحوش مندثرة، وهناك حمم ملتهبة، ومعادن منصهرة، وهناك أثقال أخرى: ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾(25).
ماذا لو تمخضت الأرض، وألقت ما في أحشائها من وحوش كالديناصورات والحيوانات الغريبة المنقرضة الذي يوحي به قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾(26)؟!
ثمّ ماذا عن الحمم المتفجرة التي تغلي في باطن الأرض، والتي نشاهد بعضها في لابة البركان حيث تبلغ درجة حرارتها 1100 درجة مئوية(27)، أليس الأمر مفزعاً؟!
وإذا كان بعض هذا يكفي في إثارة الرعب والهلع، فماذا لو أخرجت الأرض جميع ما خبّأته واكتنزته في بطنها، كما يشير له الإطلاق في قوله تعالى: ﴿أَثْقَالَهَا﴾؟!
وقد تحوّل الفعل - هنا - إلى مبني للمعلوم ﴿وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ﴾، لكنّه لم يُنسب لله، بل.. نُسب للأرض، وهي طريقة أخرى للقرآن الكريم؛ ليبرز الحدث - كحدث - على ضخامته، وقد سارت على هذا الأسلوب آيات كثيرة من الذكر الحكيم، منها:
- ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾(28).
- ﴿فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾(29).
- ﴿إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ﴾(30).
- ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾(31).
- ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا﴾(32).
وقد أشارت بنت الشاطئ إلى هاتين الظاهرتين فقالت: "وظاهرة بيانية أخرى مطردة قلّ أن نخطئها في أحداث اليوم الآخر، وهي أنّ القرآن الكريم يصرف الحدث عمداً عن محدِثه، فلا يسنده إليه، وإنّما يأتي به مبنياً للمجهول، أو مسنداً إلى غير فاعله: على المطاوعة أو المجاز....، وقد هدى تدبر هذه الظاهرة الأسلوبية إلى أنّ البناء للمجهول تركيز للاهتمام بالحدث بصرف النظر عن محدثه. وفي الإسناد المجازي أو المطاوعة تقرير لوقوع الأحداث في تلقائية؛ إذ الكون كلّه مهيئ للقيامة على وجه التسخير، والأحداث تقع تلقائياً لا تحتاج إلى أمر أو فاعل"(33).
3ـ الحيرة والذهول الإنساني:
﴿وَقَالَ الإنسَانُ مَا لَهَا﴾.
يوم تُزلزل الأرض زلزالها، وتُخرج الأرض أثقالها، وينهار النظام الكوني البديع الفريد، سيغمر الإنسان ذهول مهيب ودهشة بالغة، وحيرة مربكة، ومن فرط الذهول والدهشة والحيرة سيلقي الإنسان سؤالاً تعجبياً يقول: ﴿مَا لَهَا﴾؟!
إنّ الأحداث اليوم تأتي غريبة على الإنسان، غير معهودة لديه، فقد رأى أو علم عن زلازل الأرض، لكنّ الذي يواجهه أمر جديد مختلف، لا عهدة له به من قبل؛ فيصدر منه سؤال تعجبي حائر موجّه للأرض، فيقول بكلّ كيانه: ﴿مَا لَهَا﴾؟!، لماذا تبدّلت طبيعتها؟!، لماذا تغيّرت عادتها؟!، ألم تكن كلّ تلك السنين الماضية ذلولاً نمشي في مناكبها، ونسخّرها لأمورنا كيف نشاء فتستجيب؟!، علام اضطربت إذاً بعد أن كانت ودوداً؟!!، وعلام ألقت كلّ باعث للرهبة والهلع، بعد أن كانت كتوماً؟!!
وتأتي كلمة (الإنسان) التي تسجّلها آية ﴿وَقَالَ الإنسَانُ مَا لَهَا﴾ محلاة بـ (أل/ الاستغراقية)؛ لإفادة العموم والشمول، فهو ليس سؤالاً صادراً من (إنسان) واحد، أو من بعض بني الإنسان، ولا من صنف من بني الإنسان كالكفار والمشركين والعصاة، بل هو سؤال ينطلق من مشاعر جميع الناس، على لسان جميع الناس؛ لأنّ الذهول عام، والحيرة شاملة، ستلف بأسرها الجميع.
4ـ الأرض تتحدث:
﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾.
ومن أماكن الدهشة والغرابة في ذلك اليوم الآتي: أنّ الذي سيجيب على تساؤلات الإنسان الحائرة، واستفهاماته التائهة.. هو الأرض!!، الأرض التي ألفها جماداً ساكناً لا وعي له ولا إدراك، ولا عقل له ولا لسان، ولا قابلية للحديث والكلام أصلاً!!
إنّ الأرض هي التي تتحدث وتتكلم، وستنطق يوماً بكلّ ما فُعل على ظهرها من خير وشرّ، وصالح وطالح، وحسن وقبيح، وسندرك آنئذ أنّ الأرض عاقلة مدركة واعية، لها عين بصيرة وأذن سميعة وقلب فهيم، وتملك حسّاً مرهفاً وذاكرة فولاذية، وأنّها كانت تدوّن في دفاترها كلّ ما يجري في غفلة منّا وسكرة وغبش، وستبوح به وتنطق في ذلك اليوم الغريب، كما ستشهد وتنطق الجلود والأسماع والأبصار والأرجل والأيدي وغيرها من الأعضاء التي كنّا نظنّها ـ هي الأخرى ـ لا تملك وعياً ولا إدراكاً، ولا عقلاً ولا لساناً، ولا قابلية للحديث والكلام!!
سيتضح أنّ جميع الوجود واع مدرك، إنّما الذي تعلوه سحب الغفلة وحجب الحقيقة هو الإنسان، الذي يصنّف نفسه على أنّه العاقل الوحيد على هذه الأرض، وكلّ ما عداه بهائم وعجماوات وجمادات!!
إنّ جميع الأشياء تدوّن ما نعمل، وتختزنه في ذاكرتها، لكنّ الغشاوة التي تغلف عيوننا تمنعنا في الدنيا من إدراك ذلك، وستمدّ نفخة الصور يدها القاسية على أناس، والرقيقة على آخرين، وتنزع عن عيونهم تلك الحجب والأستار، فتضحي أبصارنا حديداً نافذاً سابراً للحقائق، إنّ يدها القاسية الرقيقة ستزيل عن عيوننا المانع الذي أركسنا في مستنقع الغفلة والغبش:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(34).
إنّه يوم ذو طبيعته خاصة ونكهة مختلفة!!
لقد سعى النبي الأكرم محمد لرفع الغطاء، وإزاحة الستر، وكشف الواقع، وإبداء الأسرار، ونحن في ردحة الدنيا، حتى نملك رؤية فلسفية كونية شاملة، ونقدم على معلوم أبلغه الوحي، ولا نرتطم بصلابة واقع مجهول خفي، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(35).
لقد كشف النبي الأكرم بعض أسرار قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾، فقال: "أتدرون ما أخبارها؟!، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذا أخبارها"(36).
ويقول : "حافظوا على الوضوء، وخير أعمالكم الصلاة، وتحفّظوا من الأرض؛ فإنّها أمكم، وليس فيها أحد يعمل خيراً أو شرّاً إلا وهي مخبرة به"(37).
ويقول حفيده الإمام الصادق : "عليكم بإتيان المساجد؛ فإنّها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهّراً طهّره الله من ذنوبه، وكتب من زواره؛ فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء، وصلّوا من المساجد في بقاع مختلفة، فإنّ كلّ بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة"(38).
لقد ظنّ البعض أنّ المقصود من حديث الأرض: "ظهور آثار أعمال الإنسان على الأرض"(39)؛ لأنّ "كلّ عمل يقوم به الإنسان يترك آثاره حتماً على ما حوله، وإن خفيت علينا هذه الآثار اليوم، تماماً مثل آثار أصابع اليد التي تبقى على مقبض الباب. وفي ذلك اليوم تظهر كلّ هذه الآثار، وحديث الأرض ليس سوى هذا الظهور الكبير، تماماً كما تقول لشخص نعسان: (عينك تقول إنّك كنتَ سهراناً أمس)، أي أنّ آثار السهر عليها واضحة"(40)، فهي تبدي ذلك بلسان الحال، لا بلسان المقال!!
وظنّ آخرون أنّ الملائكة هي التي تتحدث على لسان الأرض، وتجيب عنها!!
ولا نظنّ أنّنا في حاجة لهذه التفسيرات، لاسيما بعد أن بيّنت آيات الكتاب العزيز أنّ الأرض في حضرة الحقّ تعالى: تفهم وتجيب وتتكلم، وأنّها لديه عاقل، وليست بمنزلة العاقل!!: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾(41). كما أشارت الروايات إلى أحاديث كثيرة تبثّها الأرض في مسامع الإنسان، لكنّنا في عالم المادة محجوبون عن سماع ذلك، وحين يُرفع الغطاء وتُزال الحجب سنرى ذلك ونشهده بكامل قوانا الحسّية!!
ومن بين تلك الأحاديث التي تزيح كثبان الرمال؛ لتكشف لنا شيئاً من هذا المغطّى من حديث الأرض: قول رسول الله : "أكثروا ذكر هاذم اللذات.. حائل بينكم وبين الشهوات، يا عباد الله، ما بعدَ الموت لمَن لا يُغفر له أشدّ من الموت، القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته، إنّ القبر يقول كلّ يوم: أنا بيت الغربة، أنا بيت التراب، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود والهوام.
والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، إنّ العبد المؤمن إذا دُفن قالت له الأرض: مرحباً وأهلاً، قد كنتَ ممن أحبُّ أن تمشي على ظهري، فإذا وليتُكَ فستعلم كيف صنيعي بكَ؛ فيتسع له مدّ البصر. وإنّ الكافر إذا دُفن قالت له الأرض: لا مرحباً ولا أهلاً، لقد كنتَ مِن أبغض مَن يمشي على ظهري، فإذا وليتُكَ فستعلم كيف صنيعي بكَ؛ فتضمّه حتى تلتقي أضلاعه"(42).
هذه لقطات من المخبّأ المستور الذي يحول دونه عالم المادة الكثيف، ومحدودية سبل الإدراك عندنا، وكثافة الأغطية والستور التي تراكمت على بصائرنا بفعل كثرة المعاصي والذنوب، لكنّ العين الشفافة للنبي الأكرم ، والأذن المرهفة، واتصاله بعالم المعنى الشفيف.. عالم الروح والوحي، يجعله يبصر ذلك ويسمعه، ومن إخلاصه للناس والبشر أن كشف بعضه لهم؛ ليتداركوا المصيبة والطامة قبل حلولها، ويستعدوا لتلك النوازل قبل نزولها، ويشرعوا لهم الطريق للعمل الخيّر الذي يقي منها، كما يفعل علماء الفلك والأرصاد.
ولدى الأرض حديث كثير ستقوله في ذاك اليوم ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾، فالفعل ﴿تُحَدِّثُ﴾ هو فعل مضارع يدلّ على التجدد والحدوث، و﴿أَخْبَارَهَا﴾ جمع، فالأرض تحدث بأخبار كثيرة موصولة، لا بخبر واحد ويطبق عليها الصمت، ويأكلها الخرس.
إنّ الأرض مطيعة لله، لا تعصيه، ولا تخرج عن أمره، وستُخبر الإنسان الذي يعصي الله ويخرج عن أمره بأنّ الأفعال المذهلة التي قامت بها آنذاك إنّما هي استجابة للوحي الإلهي الذي سكب فيضه الروي في قلبها النابض بحبّ الله، العاشق لامتثال أمره: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾.
وهذه علامة جديدة على أنّ الأرض واعية: تتلقي أمر الله، وتفهمه، وتستجيب له، وتتمثله كما طُلب، وتفعله كما أُريد، وليست جماداً خاوياً!!
وحديث الأرض للإنسان بضمير كاف الخطاب المفردة ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾، بدلاً من ياء المتكلم (بأنّ ربّي أوحي لي)؛ أتى ليكون الخطاب للإنسان مباشرة، ولكلّ إنسان على حدة، ووضعه في دائرة الغرابة والذهول من جديد، وتكثيف ذلك حوله، بما يحويه ذلك من إشعاره بأنّ الآمر (ربّكَ) الذي ربّما عصيته في السابق، أو أنكرته.
كما يأتي حديثها بصورة المفرد (ربّكَ) لا الجمع (ربّكم): (بأنّ ربّكم أوحى لها)؛ ليكون الخطاب الملتاع الحزين من الأرض موجّهاً بعمق لكلّ شخص باستقلال وعلى حدة؛ ليدرك عظمته وجسامته، ويشرع له باب التفاعل المباشر مع وقع الحدث الصادم، لاسيما وأنّ الناس يومذاك فرادي كالجراد المنتشر: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾(43).
5ـ الصدور العام المتشتت للبشرية:
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾.
من الطبيعي جداً: أنّ زلزالاً أرضياً جائعاً عطشان يلتهم ويشرب عدداً من البشر كضحايا له، وإذا علمنا عظمة وفظاعة زلزال الآخرة فسنتوقع أنّ البشرية جمعاء ستكون ضحيته، وسوف يلتهمهم ويشربهم عن بكرة أبيهم دفعة واحدة!!
وهذا ما ينفيه القرآن الكريم، فمن غرائب ذاك الزلزال أنّ الجميع معه ﴿يَصْدُرُ﴾، الكلمة التي تستحضر مقابلها العربي (يرد)، فهناك ثمة ورود سابق؛ لأنّ الموت في الدنيا كان يجعلهم يردون القبور، ويلجون باطن الأرض: ﴿يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾(44).
أما زلزال الآخرة فهو إيذان بالصدور الجمعي المتناثر للحساب، حيث يتمنى الإنسان أن يتحوّل إلى تراب ويستريح: ﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾(45).
فلن يموت أحد من زلزال الآخرة، ولن يتوارى أحد تحت ركام المنازل المحطمة والأشجار المتراكمة، ولن يُدفن أحد تحت الحجارة المنهارة من الجبال أو تحت كثبان الرمال، ولن تبلع الأرض أحداً منهم، بل سيصدرون جميعاً، دون تخلّف أحد، سيصدر الناس - كلّ الناس – لساحة المحشر: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ﴾.
ومن ملامح الغرابة والوحشة في ذلك اليوم الكئيب أنّ هذا الصدور مع كونه جمعياً لكلّ الناس، ومع أنّ الأحداث الجسام توحد مشاعر البشر وتوحد فعلهم لمغالبة الخطر المشترك الداهم، فيجتمعون على (وحدة المنطلق، ووحدة الشعور، ووحدة الفعل، ووحدة الهدف)، ومع أنّ وجهتهم التي يسيرون نحوها واحدة هي ساحة المحشر (وحدة الهدف)، لكنّ ما في ذلك اليوم من دهشة ورهبة ستترك كلاً منهم في شأنه وحاله، فيأتون ﴿أَشْتَاتًا﴾ متفرّقين مبعثرين، لا يعير أحد منهم باله لغيره ولو كان أقرب قرابته:
- ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾(46).
- ﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾(47).
- ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾(48).
6ـ دقة المحكمة الإلهية:
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
ولن تنتهي مسيرة الذهول عند حدّ ما مضى، فهناك محكمة دقيقة جداً لابدّ وأن تمتثل البشرية أمامها، ومن عظمة تلك المحكمة أنّه لا يفوتها ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾، بما يوحي به هذا التعبير الكنائي من التناهي في الصغر والضآلة، فالعرب تعدّ (الذرّ) - سواء أكان ذرات الغبار التي تظهر في مساقط ضوء الشمس، أم النمل والحشرات الصغار - أصغر ما عهدته، والحساب سيُحضر عمل الإنسان ولو كان متناهياً في الصغر مثل ذلك!!
عن أبي سعيد الخدري قال: "لما أُنزلت هذه الآية: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ قلتُ: يا رسول الله، إنّي لراءٍ عملي؟!، قال: نعم، قلتُ: تلك الكبار الكبار؟!!، قال: نعم، قلتُ: الصغار الصغار؟!، قال: نعم، قلتُ: وا ثكل أمي!!، قال: ابشر ـ يا أبا سعيد ـ فإنّ الحسنة بعشر أمثالها، يعني إلى سبع مئة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء، والسيئة بمثلها، أو يعفو الله، ولن ينجو أحد منكم بعمله!!، قلتُ: ولا أنت يا نبي الله؟!، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بالرحمة"(49).
وقال عبد الله بن مسعود: أحكم آية في القرآن: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(50). وكان النبي يسمّي هذه الآية الشريفة (الجامعة) (51).
وروى معمر عن زيد بن أسلم: "أنّ رجلاً جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: علمني مما علمك الله، فدفعه إلى رجل يعلّمه القرآن فعلمه: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ﴾، حتى بلغ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، فقال الرجل: حسبي!!، فأخبر بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (دعه؛ فقد فقه الرجل)" (52).
كما أنّ المحكمة عادلة لا تجور: فمَن يعمل خيراً لا يُجزى شرّاً، ومَن يعمل شرّاً سيراه، إنّها تبرز لكلّ شخص ما فعل دون تحريف، كما أنّها محكمة قوية، فمع أنّها تحاسب البشر أجمعين، لكن لا يمكن لأحد فيها أن يهرب، أو ينتفض، أو يدلّس، أو يَخدع، ولا يمكن فيها أن تجتمع كلمة البشر على الانقلاب عليها وتحطيمها.. مع أنّ البشر مليارات.
مثقال ذرة وحجم ذرة!!
وكان التعبير القرآني في بيان دقة المحكمة الإلهية واقفاً أمام مفترق طريقين:
أـ أن يعبّر بالحجم (حجم ذرة)، (قدر ذرة)، (مقدار ذرة).
ب ـ أن يعبّر بالوزن ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾.
وقد آثر القرآن الكريم (التعبير بالوزن) على (التعبير بالحجم)، لا في هاتين الآيتين فحسب، بل في القرآن الكريم كلّه:
ـ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(53).
ـ ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾(54).
ـ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾(55).
ـ ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾(56).
ـ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(57).
ـ ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(58).
ـ ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾(59).
فلماذا آثر القرآن الكريم التعبير بالوزن دون الحجم؟!
لعلّ ذلك أشدّ في الدقة، فهناك أشياء صغيرة جداً كحبات الغبار المنثالة في الضوء، يراها الإنسان، ويدرك حجمها الصغير، لكنّه لا يملك الميزان لوزنها، لكنّ الله تعالى يخبره أنّ ذاك مهما قلّ وزنه فإنّ الله يملك الميزان الذي يزنه، كما أنّ التعبير بوحدة الوزن أكثر مناسبة لحقل (الميزان) الذي تعبّر عنه الآيات طريقة لتقدير عمل العباد: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(60).
7ـ تجسّم الأعمال:
﴿لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
إنّ صدور الناس من قبورهم ليس عملاً عبثياً، ولا استعراضياً، بل.. جاء لغاية هي أن يرى الناس أعمالهم.
وفي سورة الزلزلة ثلاث آيات تحدثت عن تجسّم الأعمال: ﴿لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾:
أـ فالآية الأولى ـ هنا ـ تقول: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾، فهم سيرون العمل نفسه.
ويعلّق الشيخ ناصر مكارم الشيرازي على هذه الآية فيقول: "وهذه الآية أوضح الآيات الدالة على تجسّم الأعمال؛ حيث تتخذ الأعمال في ذلك اليوم أشكالاً تتناسب مع طبيعتها، وتنتصب أمام صاحبها، وتكون رفقتها سروراً وانشراحاً، أو عذاباً وبلاء"(61).
ب ـ وأصرّت الآية الثانية على أنّ الناس في طرف الفعل الخيّر سيرون فعلهم ذاته: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾.
ج ـ كما أصرّت الآية الثالثة على أنّ الناس في طرف الفعل الشرير سيرون فعلهم عينه: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
وهكذا لم تقل الآيات الثلاث: (ليُروا جزاء أعمالهم) أو (ليُروا أثر أعمالهم)، أو (ليُروا نتيجة أعمالهم)، بل ﴿لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ نفسها وذاتها وعينها، ماثلة شاخصة رأي العين وملء البصر، ينطبق هذا التجسّم على الأفعال الخيّرة الصالحة: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، كما ينطبق على الأفعال الشريرة الطالحة: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
وهكذا سيرى الناس ما قدموه بعينه، وقد ظهر في صورته الواقعية الحقيقية وتجسّم فيها، بعد أن اقتصرت رؤيتهم الدنيوية المحدودة على صورته الظاهرية.