قيقة تأمل
كل شيء في هذا الكون مقدر بدقة، كما أخبر الباري عز وجل في كتابه العزيز: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) وفي آية أخرى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ).
وكما إن الكتاب التكويني في منتهى الدقة والتقدير، كذلك هو الكتاب التدويني المتمثل في القرآن الكريم. ومن هنا ينبغي حين التأمل في آيات الكتاب المجيد أخذُ هذه القاعدة بعين الاعتبار. فتخير مفردة مكان أخرى، أو التقديم والتأخير، أو الذكر والحذف، وغير ذلك مما اعتنى به البلاغيون والمفسرون أمر في غاية الأهمية، ولا يصح المرور عليه دون التوقف عنده وتدبر ما وراءه.
في تفسيره (آلاء الرحمن في تفسير القرآن) كان للشيخ البلاغي وقفات دقيقة عند مثل هذا، نذكر منها مثالا واحدا جديرا بالتأمل. كثير منا يمر على قوله تعالى في سورة الأعراف: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) وقوله في سورة : (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ)، ثم لا يلتفت للفرق الدقيق بين التعبيرين (مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ) (مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ). فقد ذهب جمع كبير من المفسرين إلى أن (لا) في الآية الأولى زائدة.
أما الشيخ البلاغي الذي له من اسمه النصيب الأوفر، فقد ذهب إلى عدم الزيادة. يقول في مقدمة تفسيره مبينا عدم زيادتها، وإنما جيء بها لغرض ما: إن التدبر في آيات الأعراف و يشهد بأن «لا» غير زائدة بل جيء بها في الأعراف للإشارة إلى أمر قد صرح به في آيات وذلك أن الفعل قد يكون له مانع من ضد أو عذل أو غفلة أو عجز أو كَل؛ وقد يكون له سبب داع وحامل على تركه ومخالفته الأمر به. فسأل اللّه إنكارا أو توبيخا في سورة عن المانع بقوله تعالى (مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ)، وعن السبب والحامل على المخالفة بقوله تعالى (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ). وأشار جل شأنه في سورة الأعراف بوجود (لا) إلى السؤال عن السبب الحامل على المعصية بعد السؤال عن المانع، فكأنه قال ما منعك من أن تسجد، وما حملك على أن لا تسجد. ولذا وقع الجواب من إبليس في كلا المقامين بيان السبب الحامل له على أن لا يسجد لا التعليل بالمانع فقال (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).