دقيقة تأمل
كل مستكبر هو بالضرورة مصاب بالعمى المركب، لأنه لا يرى ويرى أنه يرى. إذ كل رؤية مجانبة للواقع هي في واقعها لا رؤية، بخاصة مع إصرار صاحبها على أنها الرؤية الصحيحة، وأن غيرها باطل لا ريب فيه.
الاستكبار من أخطر الأمراض فتكا بالإنسان ودين الإنسان. وهو سير على خطى عدو الإنسان الأول الذي استكبر على أمر ربه وأبى أن يكون مع الساجدين، لأنه كان يرى نفسه خيرا من آدم ﴿قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾.
والمستكبر بسبب تضخم الذات عنده لا يستمع لأحد، وينظر لغيره نظرة احتقار وازدراء، فيرى أنهم ليسوا أهلا للإنصات، بل ليسوا أهلا للخير واتباع الحق، بل إن إيمانهم بأمر دليل على عدم حقانية ذلك الأمر. ولذلك فإن المستكبر في حالة تسافل دائم، ولا يمكنه أن يعرج في مدارج الكمال أبدا ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾.
لنتأمل في قوله تعالى عن قوم نوح: ﴿فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ﴾، فهم يرون في نبي الله نوح بشرا عاديا، ولا يرون جانبه الغيبي المرتبط بالوحي، ويحتقرون أتباعه وفكرهم لأنهم لا ينتمون إلى طبقتهم الاجتماعية، وكأن الفكر حكر عليهم، ولا يرون أي ميزة أو فضيلة لأولئك عليهم، فهم يرون أنه لا أحد يعلو عليهم.
إنه كما قلنا العمى المركب، أو بحسب التعبير القرآني ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ كما جاء في الآية التالية في جواب نوح للمستكبرين ورده على رؤيتهم العمياء: ﴿قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ﴾.