فاطمة الزهراء عليها السلام...القدوة العلمية
منذ أن بعث الله النبي الأكرم إلى هذه الأمة ورسالة العلم والمعرفة ترفرف خفاقة على أرجاء هذه المعمورة، وأصبحت رسالة الإسلام رسالة العلم، رسالة الحياة لما يحمله العلم من مقومات الحياة بشتى أشكالها، حيث يقول الإمام علي : ( اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة) وفي حديث آخر يقول : ( إن العلم حياة القلوب، ونور الأبصار من العمى، وقوة الأبدان من الضعف).
ويكتسب العلم هذه الميزة وهذه القوة حينما نعلم أن مصدر العلم هم أهل بيت النبوة المتصلين اتصالاً مباشراً بالوحي فهم ( مهبط الوحي ومعدن الرحمة وخزّان العلم ) كما جاء في الزيارة الجامعة، وقد روى جابر بن عبدالله الأنصاري عن رسول الله أنه قال : ( إن الله جعل علياً وزوجته وأبناءه حجج الله على خلقه، وهم أبواب العلم في أمتي، من اهتدى بهم هُدي إلى صراط مستقيم )(1)
وهكذا نعي أن من أراد أن يرتشف من معين العلم والمعرفة فعليه أن يتوجه إلى المصدر الحقيقي، وهم أهل البيت
وفاطمة الزهراء تمثل جانباً مهماً في هذا الجانب سيما أنها تربت وترعرعت في بيت مفجر النهضة العلمية في ربوع الجزيرة العربية، فمن رسول الله تعلمت الكثير من العلوم والأحكام، ومنه سمعت تلك الكلمات الرسالية وتلك الأدعية الروحانية، والأخلاقيات النبوية الرفيعة، وساعدها في ذلك ما تحمله شخصيتها من الذكاء والفطنة والقلب الواعي، الذي حفظ تلك الكلمات وأدرك معانيها على أكمل وجه.
وقد جاء في زيارتها : ( السلام عليك أيتها المحدَثة العليمة )(2) في هذا الصدد يقول الإمام الشيرازي ( قُدس سره) : ( إن الصديقة الزهراء كانت عالمة بالعلم اللدني من الله فقد أُتيت من العلم والمعرفة قدراً لا يضاهيها فيه أحد سوى الرسول الأعظم وبعلها أمير المؤمنين .
كانت على قدر من المعرفة بحيث أنها تخبر عما هو كائن وما كان وما سيكون في المستقبل، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على سعة علمها وارتفاع مقامها )(3).
ومع هذه المرتبة العالية من العلم نجد الحاقدين ومبغضي أهل البيت يقولون أن جميع ما روته السيدة الزهراء لا يتجاوز عشرة أحاديث، وبعضهم قال أنه لم يتجاوز ثمانية عشر حديثاً!! فأي مقولة هذه تنم عن حقد دفين، فمن يتربى في كنف العلم والمعرفة ومن يأمر ولديه بالذهاب إلى المسجد للاستماع إلى كلمات الرسول وحديثه ومن ثم نقله إليها، أهكذا يكون حظه من الرواية وحفظ الأحاديث، بينما نجد من يسلم متأخراً ولم يرافق رسول الله إلا فترة وجيزة يروي ألاف الأحاديث!! فأي مقولة هذه؟!
وهنا نود أن نذكر بعض الشواهد على علم الزهراء التي تؤكد لنا غزارة علمها:
- الصحابة وعلم فاطمة
لمعرفة الصحابة بذلك الكنز الخفي والعلم الوفير الذي تحتضنه السيدة الزهراء نجد الصحابة يغتنمون الفرص للانتهال منه، والاستضاءة بهديه، حيث يقول ابن مسعود : ( جاء رجل إلى فاطمة فقال: هل ترك رسول الله عندك شيء تطرفينيه؟ فقالت: يا جارية هات تلك الحريرة، فطلبتها فلم تجدها، فقالت: ويحك اطلبيها فإنها تعدل عندي حسناً وحسينا، فطلبتها فإذا هي قد قممتها في قمامتها، فإذا فيها، قال محمد النبي : ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤدي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت، إن الله يحب الخير الحليم المتعفف، ويبغض الفاحش الضنين السّئَّال الملحف، إن الحياء من الإيمان و الإيمان من الجنة، وإن الفحش من البذاء، والبذاء في النار)(4).
- ملجأ لمن احتار
وكانت ملجأ لمن احتارت عليه الإجابة، وقد روي في هذا الخصوص عن علي قال: ( كنا جلوس عند رسول الله فقال: أخبروني أيُّ شيء خير للنساء، فعيينا بذلك كلنا حتى تفرقنا، فرجعت إلى فاطمة، فأخبرتها الذي قال لنا رسول الله وليس أحد منا علمه ولا عرفه، فقالت: ولكني أعرفه، خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال، فرجعت إلى رسول الله فقلت: يا رسول سألتنا أي شيء خير للنساء وخير لهن أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال، قال: من أخبرك فلم تعلمه وأنت عندي؟ قلت: فاطمة، فأعجب ذلك رسول الله وقال: إن فاطمة بضعة مني) (5).
- تحدد معالم الشيعة
وفي رواية عن الإمام العسكري قال: قال رجل لامرأته: اذهبي إلى فاطمة بنت رسول الله فسليها عني: أنا من شيعتكم أو لست من شيعتكم؟ فسألتها، فقالت : ( قولي له: إن كنت تعمل بما أمرناك وتنتهي عما زجرناك عنه، فأنت من شيعتنا وإلا فلا).
فرجعت فأخبرته، فقال: يا ويلي ومن ينفك من الذنوب والخطايا، فأنا إذن خالد في النار، فإن من ليس من شيعتهم فهو خالد في النار!
فرجعت المرأة فقالت لفاطمة ما قال زوجها..
فقالت فاطمة قولي له : ( ليس هكذا فإن شيعتنا من خيار أهل الجنة، وكل محبينا وموالي أوليائنا ومعادي اعدائنا، والمسلم بقلبه ولسانه لنا ليسوا من شيعتنا إذا خالفوا أوامرنا ونواهينا في سائر الموبقات، وهم مع ذلك في الجنة، ولكن بعد ما يطهرون من ذنوبهم بالبلايا والرزايا أو في عرصات القيامة بأنواع شدائدها، أو في الطبق الأعلى من جهنم بعذابها، إلى أن نستنقذهم بحبنا منها وننقلهم إلى حضرتنا)(6).
- خطبة الزهراء ... الموسوعة العلمية
ومن يقرأ سيرة السيدة الزهراء فإنه يتوقف عند خطبتها العظيمة التي ألقتها على جموع المسلمين في مسجد رسول الله والخطبة الأخرى في نساء المسلمين، ومن يقرأ هذه الخطبة فإنه يجدها كنزاً علمياً، يحتاج إلى دراسة وتحقيق واستنتاجات، فهي خطبة حملت بين كلمات العديد من الدروس في بيان التوحيد، والنبوة، والتحدث عن الفترة الجاهلية التي سبقت بعثة الرسول ، وفلسفة الأحكام وعلل الشرائع، وغيرها من دروس وقد قام الإمام الشيرازي (قُدس سره ) بدراسة هذه الخطبة وخرج لنا بأعظم موسوعة فقهية استدلالية تقع في ستة أجزاء تحت عنوان ( من فقه الزهراء ).
- الزهراء ... قدوتنا العلمية
وبعد هذا العرض السريع للجانب العلمي في حياة السيدة الزهراء نقول : أنها خير قدوة لنا في هذا الجانب، فمن يحب السيدة الزهراء فما عليه إلا أن يقتدي وينهج من نهجها السليم، وهنا لابد من التركيز على بعض النقاط :
1 / ضرورة التثقيف الذاتي، وأن نعيش مع العلم والمعرفة بشكل مستمر، وأن نطلب العلم من المهد إلى اللحد، أي أن تصطبغ حياتنا بصبغة العلم.
2 / التطلع والطموح في طلب العلم.
3 / ضرورة اختيار التخصص العلمي المناسب والذي يتناسب مع متطلبات العصر.
4/ صناعة الأجواء العلمية في المنزل أو العمل، وذلك من خلال حث الآخرين للتعلم والتثقف وما إلى ذلك.
إن هذا الجانب يُعد من الجوانب المهمة في هذه الحياة ولذا ينبغي عدم التهاون في إشباعها بالطريقة المناسبة، وبهذه الصورة نكون ممن يقرأ السيدة الزهراء قراءة عملية وليست قراءة لأجل القراءة فقط.