دقيقة تأمل
إطلاق لفظ المجتمع على تجمع بشري يقيم على بقعة جغرافية محددة، وتفرقه الأهواء، وتمزقه الفتن والعصبيات والتحزبات هو إطلاق غير دقيق. فالتجمع لا يتحول إلى مجتمع إلا إذا كان ما يجمعه أكثر مما يفرقه، وكان لديه حد أدنى من الرؤية المشتركة حول واقعه ومستقبله.
ولفظ المجتمع هو لفظ مشكك إذا استخدمنا المصطلحات المنطقية. والمقصود بالتشكيك هنا أنه ذو درجات مختلفة، فالمسمى متفاوت وإن اتحد الاسم. ومرجع التفاوت هو مستوى التفاعل بين عناصره المكونة له. فكلما كان تفاعلها أكثر، صدق عليها الاسم بصورة أجلى واقتربت من الكمال المجتمعي الذي تتطلع لبلوغه المجتمعات الراشدة.
الكمال المجتمعي يتحقق حين يصل التفاعل بين أعضاء المجتمع أقصاه، فينزل العضو الآخر من أخيه في المجتمع منزلة النفس، وتختفي الغَيرية في أحد أشكالها. لنتأمل في التعبيرات القرآنية الدقيقة التي يراد منها تكريس هذا المفهوم الراقي في المجتمعات الإسلامية. يقول تعالى: ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ فعبَّر عن الآخر بالنفس حين نهى عن ذكر معايب الآخرين. فحين يذكر الإنسان عيوب إخوانه، فكأنه من حيث لا يشعر يتطرق لعيوب ذاته، لوجود وحدة النفس الاجتماعية. وفي آية أخرى في خطاب موجه لمجتمع بني إسرائيل يركز على ذات المعنى حين ينهى عن إخراج الآخر الشريك في الوطن من الوطن: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾. وفي آية ثالثة تأمر بالسلام على الآخرين وتُنزلهم منزلة النفس: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ فالمطلوب إلقاء السلام على أهل الدار بلحاظ وحدة النفس.
الآية الرابعة التي ينبغي التأمل فيها في نفس السياق هي قوله تعالى: ﴿ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً﴾، فعند وصول خبر ما يتضمن شيئا مسيئا لفرد أو فئة في المجتمع الإيماني، فإن إعمال الظن الحسن بالآخر مهم جدا في صيانة وحدة المجتمع. ولن يكون ذلك إلا بملاحظة كونه النفس لا الآخر.
ما أعظمها من قيمة إنسانية كبرى، وما أحوج مجتمعاتنا لها خصوصا في الوقت الراهن ذي الملابسات العاصفة.