دقيقة تأمل
كلما اتسع الإناء اتسع الفيض. فالله تعالى جواد لا يبخل، وقادر لا يُعجزه شيء، وغالب على أمره لا يحول دون إرادته حائل، وعطاؤه جل شأنه متصل غير منقطع، ومطلق غير محدود وبتعبير القرآن (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً). فما يوجد من التحديد والتقدير والمنع باختلاف الموارد فإنما هو من ناحية المستفيض (أي المخلوق) وخصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس، لا من ناحية المفيض (أي الله تبارك وتعالى)، كما يقول صاحب الميزان.
ومن ذلك العطاء الإمداد الغيبي، فهو مرتبط اتساعا و...ضيقا بالقابليات (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). لنتأمل في الآيتين التاليتين من سورة الأنفال، ولننظر كيف تبدلت نسب القوة والتأثير بشكل كبير جدا بسبب تغير العوامل الداخلية في النفوس:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66).
الإمداد الغيبي مشروط كما قلنا بمجموعة من الشرائط التي ينبغي العمل على تحقيقها، ومن بينها الصبر بالإضافة للإيمان والتقوى والعمل الصالح. والصبر بما يعنيه من صمود ومثابرة وإصرار على تحقيق الهدف المنشود وتحمل لوحشة الطريق ووعورته، له أثره الكبير في نزول الإمداد، ومن ثم تغيير المعادلات. فالمعادلات لا تتغير بسبب تراكم الأعداد، وإنما بكيفية فعلها وتفاعلها.
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
(وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).