مستويات العلم في القرآن الكريم
نحو ثقافة قرآنية (4)
لو رمقت عين إنسان دخاناً من بعيد، فإنّه يعلم أنّ تحته ناراً تلتهب، وهذا هو (علم اليقين).
ولو حملته رجله، فبادر إلى مكان تصاعد الدخان، فرأى بأم عينه تلك النار تلتهب وتضطرم، فقد ارتقى مستوى علمه، وعلت رتبة علمه؛ ليصل إلى (عين اليقين).
أما لو ولج في النار، واقتحمها، وأحرقته حرارتها اللاهبة، فإنّه سيعيش مستوى أعلى من العلم، ويصل إلى (حقّ اليقين).
في رحاب القرآن المجيد:
وقد تكلم القرآن الكريم عن هذه المستويات والمراتب الثلاث من العلم:
1ـ علم اليقين:
وهو العلم اليقيني الجازم بالشيء، عبر توسط أثر من آثاره الراسخة التي لا تنفك عنه، ويحصل بـ (البرهان).
قال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾(1).
2ـ عين اليقين:
وهو العلم اليقيني الجازم بالشيء، عبر معاينة جرمه، ورؤيته مباشرة، ويحصل بـ (الكشف).
فقد أردف الله الآيات السابقة بقوله: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾(2).
3ـ حقّ اليقين:
وهو العلم اليقيني الجازم بالشيء، عبر الوقوع فيه ومعايشته المباشرة، ومعرفة كيفيته التي لا تظهر بالتعبير، ويحصل بـ (الاتصال المعنوي بالشيء).
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾(3).
يقول الشيخ محمد صالح المازندراني:
"(اليقين) وهو الحالة التي تحصل للإنسان عند كمال قوته النظرية، كما أنّ (التقوى) هي الحالة التي تحصل له عند كمال قوته العملية، وبعبارة أخرى هو الاعتقاد الجازم المطابق الثابت الذي لا يمكن زواله، وهو في الحقيقة مؤلف من علمين: العلم بشيء، والعلم بأنّه لا يمكن خلاف ذلك العلم.
وله مراتب مذكورة في القرآن: علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين، قال الله تعالى: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾(4)، وقال: ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾(5).
وهذه المراتب مترتبة في الفضل والكمال، مثلاً: العلم بالنار بتوسط النور أو الدخان هو (علم اليقين)، والعلم بها بمعاينة جرمها المفيض للنور (عين اليقين)، والعلم بها بالوقوع فيها ومعرفة كيفيتها التي لا تظهر بالتعبير (حقّ اليقين).
وبالجملة (علم اليقين) يحصل بـ (البرهان)، و(عين اليقين) بـ (الكشف)، و(حقّ اليقين) بـ (الاتصال المعنوي) الذي لا يُدرك بالتعبير"(6).
لماذا لم تذكر سورة التكاثر المستوى الثالث؟
لأنّ المستوى الثالث (حقّ اليقين) يقتضي الوقوع في الشيء والمعايشة المباشرة له وفيه، ولو توعد الله جميع البشر به لكان معنى ذلك أنّ جميع البشر سيدخل النار، بينما المستوى الأول (علم اليقين) يتم عبر الواسطة، والمستوى الثاني يتم عبر النظر والرؤية والمشاهدة فقط، ومن ثمّ فإنّ الآيات التي تتحدث عن الضالين المكذبين ذكرت (حقّ اليقين)؛ لأنّهم سوف يلجون النار، ويعيشونها بكامل كيانهم، وبكامل اتصالهم معها وتوحدهم إياها.
هل هناك مستوى رابع للعلم؟
أكثر العلماء يذكرون المستويات الثلاثة للعلم واليقين، ويرون أنّ (حقّ اليقين) أسماها وأعلاها وذروتها، لكنّ بعض العلماء يذكر مستوى رابعاً ومرتبة رابعة أعلى منها جميعاً في درجات العلم ومرتقياته، وهو (برد اليقين)، والذي لم يتحقق إلا للرسول الأكرم محمد في المعراج، وآله المعصومين الكرام من بعده.
وهو الطمأنينة الكاملة الناتجة من المعرفة الحقة الحقيقية التامة الفعلية الجلية بحقائق الأمور، ويتم عبر (الفيض الإلهي)، فهو من (العلم اللدني).
وتسميته بـ (برد اليقين) مستلّ من حديث للرسول الأكرم محمد يتحدث فيه عن رحلة المعراج، حين وصل إلى مقام قاب قوسين أو أدنى، يقول فيه عن الله تعالى: "وضع يده بين ثديي، فوجدتُ برد أنامله بين كتفي"(7).
وينقل السيّد حبيب الله الهاشمي الخوئي عن أحد العارفين قوله: "برد اليقين الموجب للطمأنينة الكاملة المستلزمة للخلق العظيم، الذي كان لنبيّنا ـ صلَّى اللَّه عليه وآله ـ، ودونه لأهل بيته"(8).
وواضح أنّ تعابير (يده/ أنامله) الواردة في حديث رسول الله إنّما هي كناية عن الشعور الواقعي الفعلي بذاك البرد وذاك الثلج وتلك الطمأنينة.. التي صبّت حقائق المعارف في قلبه كما يُصبّ الثلج على الحرارة فيمحوها، ولا يعني أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ جسم، وله يد.. فعل بها ذلك، فهو كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾(9).