وميض من فرح ..
نجوم السماء تغريها فتشرأب ناحيتها بنظراتها المتطلعة، تقايض الوقت وتقطع فتوره إنتظاراً لإكتمال البدر .. تتعجل الرقص في طقوس تحتفل بداخلها وبالقرب ضحكة طفل عابث يطيب الأجواء الساكنة .. "في السماء أفراح كثيرة نحتفل بها ، وفيها سبع طبقات متوالية تخبئ فوانيس الليل تحت نجومها حتى لا يطفئها ضي النهار فتنشر العطر فوق دروبها ".. هكذا حدثتهن الجدة حين إلتففن حولها يسألنها عن أمر هذه الليلة، ابتسمت تخبرهن بأسرار حكمتها، فرحن ينسجن عبر كلماتها قصصاً يسردن تفاصيلها ويبالغن في بهرجتها ..
جلسن قبالتها بفرح طفولي، كأنهن عبق يسكبه إكليل الورد على صوت ترانيم ناي يرتل مقطوعات تنشد بسحر حقيقي ... أقبلن يتابعنها بشغف والوقت يتعالى كربيع يحكمه الشوق والإنتظار، تتقاطر منه أصداء البهجة كمطر يهمي في خضرة الأرض، وكأنهن على موعد سابق معها ...
على مهل كانت ترصف خطواتها الواثبة، وطولها المتنامي يساند تحفزها بتطلعات واعدة، والمغرب أعلن مآذنه ولباس الفرح يجمع ذكرياته بشرود طفولة تسري في ذاكرتها تترقب حدوث مفاجأة ما .. تتبعه بنشوة وتصغي لخطوات طفلة صغيرة حافية القدمين تسير داخل ذكرياتها المبعثرة، تقفز داخل أرجائها بمرح عارم، ربما نسيت أن تنتعل حذاءها لكن عينيها تلمع بسعادة كبلورة صافية تزيدها أشعة الشمس بريقاً كلما سقطت سلال ضوءها عليها ... تجندل حولها رفيقات درب لم تعد الأيام تجمع بينهن بعد أن كن يتبارين بطقوس ليلتهن المنشودة ...
تستلهم وميض الفرح من ماضيها، وتصغي لصوت الناي بداخلها فتشم روائح البخور وعطر تضوعه الليالي الحافلة .. يمكنها أن ترى أشياء كثيرة مرت بها كحبات أرز مختلفة، وآنية صغيرة تجمعها، وامرأة متلفعة بخمارها تندس في بيوت الحي تطلب أرزا لتوفي نذرها الذي لا يعرفن ما هو .. وبشقاوة ما لم تتقصدها تعبث بخمارها لتكشف أمرها .. إنها جارتهم الأرملة القاطنة أواخر البيوت الطينية المتهالكة ... أتت تحصل على حفنة الأرز كعادة جارية في ليلة "دق الطاسة". تتعرفها هي تماماً، فتركض بسرعة نحو والدتها لتعلن أنها رأت جارتهم بذاتها رغم أنها تنُكر نفسها فتخفي وجهها، لكنها عرفتها حين اصطدمت بها عبر بردة الباب .. تثنيها أمها وتخبرها أن تجعل من يقينها أعمى حتى لا تفضح أمرها ..
ليس عليها أن تحتفظ به طويلاً فلحظة فرح واحدة تجعلها تنسى هذا السر الخطير فتعيد تزيين خراجها بأشرطة القماش الحريرية، وعقد من حبات الرطب الأخضر تصنعه لتزين به عنقها، تدخر كل هذا لتقرقع معهن في بيوت الجيران تناصفهم الشهربقطع الحلوى الملونة والسكاكر الحلوة والفول السوداني، وبأهزوجة طرية لازالت باقية بذاكرتها ..
لا ضير أن تتقافز تلك الليلة حين ينطفئ النهار تلتقط حبات الأرز المتناثرة هي الأخرى تستعد لحمل خراجها وتحكم وثاقه .. تتفتل في خاصرة البيت وتجوب بيوت الحي تراوغ رفيقاتها بالخبر الذي امتلكته ، تعلنه مرة بمكر ومرة بيقين تقسم عليهن أنه حقيقة رأتها بأم عينيها ، وتخفيه باستحضار تنبيهات الكبار وتحذيراتهم من كشف الستر، فالمرأة صاحبة الأرز تصلي في طلب حاجتها، وعلى سرها أن يختفي كصدى صوت تلاشت ملامحه حين يصل الأرز للمسجد في اليوم التالي وفاء لنذرها، سيأكله الفقراء ويشكروا صنيعها ، فتبدأ طقوس الناصفة التي تنتظرها بوله .. تلبس ثوبها وتنفتل مع رفيقاتها حول البيوت كفراشات تناور الظلال .. ستبدو لها هذه البيوت لا نهائية ممتدة في درب طويل محكمة الإلتصاق بالضوء النافذ كضفيرتها المهملة مربوطة بشريطة بيضاء طويلة تترنح مع حركتها المفرطة ....
ناصفة حلاوة """"" على النبي صلاوة
الله يخلي أولايدتكم """"" سالمين غانمين
عطونا الله يعطيكم """"" بيت مكة يوديكم
يا مكة يا معورة يا معمورة """"" يا أم السلاسل والذهب والنورة
الله يخلي أولايداتكم """"" سالمين غانمين
كبرت وفي كفها قمر يكتمل تتطلع للعالم من نافذتها التي تركتها مواربة ترسل من جيوبها المفتوحة كل هذا العبق تلتقطه كنجمة شاردة .. تتسلق السنون النافرة في رحلة تحتضن الوميض المندس في زوايا ذكريات مشحونة بانفعالات، صاخبة بملامح طفولية بريئة ورمزية لزمن بسيط ولى ومضى ... لكنها لازالت تسرح وتحجل بقدميها الصغيرة وبقايا حناء مطموس النقش مخفي المعالم يصبغها ، تصطدم ببضع فراغات تتيبس فيها الذاكرة عند محطة لاتغادرها بغير أن ترسم إبتسامة توزعها على جفاف حاصر سنينها ... تعاود الركيض فتتزاحم أنفاسها مع الفتيات وهن يتقاطرن صوب الفرح يمررن بهجتهن بين أقدامهن المتحفزة في سباق جاد لقرع بيوت الحي والصبية يحتفلون معهن فتزداد ملابسهم بياضاً غير معهود ووجوههن نظارة .
يتفتلون في أرجاء الحي ويشعلون شموس فوانيسهم زارافات ووحداناً .. يتنفس الليل أهازيجهم العبقة ، ويفيق على فرحة عارمة يحتفلون بها كلما حضرهم موسمه وانتصفت بهم ذكرى طيبة لمولد شريف