وبالغتَ في النصيحة..
درسنا في الجامعة أنه في مقابل كل مرة يسمع الإنسان معلومة خاطئة، فإنه يحتاج إلى أن يسمع المعلومة الصحيحة 11 مرة لكي يستبدلها في ذهنه! هذا على صعيد المعلومات، أما الأفكار والقناعات الخاطئة فهي بالطبع تحتاج جهدا أكبر لتغييرها. ما نحتاجه اليوم هو روح تصحيح الأفكار والممارسات والعمل الجاد من جميع فئات المجتمع في هذا السبيل، وخصوصا بعد أن انضم القتل لأتفه الأسباب إلى قائمة الجرائم والانحرافات في مجتمعنا.
وهنا تأتي أهمية إصرار الجميع على القيام بهذا الدور في أحلك الظروف. هذا الإصرار يتعرض في كثير من الأحيان لانتكاسات طبيعية ينبغي أن لاتقيدنا عن القيام بوظيفتنا والعمل وفق مبادئنا. أحيانا، يحجم البعض عن مجرد تقديم النصحية ويصاب باليأس والإحباط بعد تقديم بعض النصائح أحيانا أخرى نتيجة ما يعترضه من عقبات وما يلاقيه من أذى وإساءات، إضافة إلى ضعف الاستجابة.
ولكن، من حسن الحظ أننا نمتلك مصادر طاقة وإشعاع تنعش أرواحنا وتجدد عزيمتنا تتمثل في سيرة وأحاديث أنبياء الله العظام وأوليائه الكرام وعلى رأسهم رسول الله
وأهل بيته المعصومين
. ومن أكبر مصادر الطاقة هذه نهضة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين
والخلص من أصحابه وأهل بيته. فلنجعل، إذًا، من ذكرى هذه النهضة محطة تأمل تلهمنا كيف نعمل لإصلاح أمور ديننا ودنيانا وتزودنا بالقوة والإصرار الكافيين للاستمرار في هذا الطريق.
- وبالغت في النصيحة..
ركزت العديد من الزيارات الواردة عن أئمة أهل البيت على جانب الإصلاح والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نهضة أبي عبد الله الحسين، وهذا ليس بغريب، لأن حركة الإمام الحسين قامت –بمجملها- على قيم الإصلاح هذه، وقد صرح بنفسه وأخبر عن أهدافه قائلا: "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي"، وفي حديث آخر له: "ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا ينتهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا"(1). ولكن الملفت للنظر أن إحدى الزيارات وردت فيها الشهادة من المعصوم والإشادة بحامل لواء الحسين وأخيه معلم البشرية درس الوفاء أبي الفضل العباس بلفظ: "أشهد أنك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود، فبعثك الله في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء"(2).
المبالغة في النصيحة هنا بمعنى -كما ورد في لسان العرب-: "بالَغَ يُبالِغُ مُبالَغةً وبِلاغاً إِذا اجتهد في الأَمر"(3).
هذا المقطع يلفت النظر ليس لأنه موقف تقدير كبير من إمام معصوم لعملية القيام بالنصح فقط، ولكن الملفت هو ثناء المعصوم على "المبالغة" في تأدية النصيحة وإعطاء "غاية" المجهود وأقصاه. هذا ما يجب أن نستوقف عنده كثيرا، ونقيّم أنفسنا وممارساتنا العملية بناء عليه، ونزداد عزيمة وإصرارًا على متابعة النصح والإصلاح، ونصحح مواقفنا وأداءنا إن كنا مقصرين، فدنيانا قبل ديننا نخسرها وتقع الكوارث إن لم نتدارك الموقف ونواجه الانحراف والخروج على القوانين والآداب. أمننا نخسره إن لم نتصدى للمنكرات، وعندما يخسر الإنسان الأمن فإنه لا يستطيع تعويض ذلك بأي شيء آخر وإن ملك الدنيا وما فيها.
- الإصرار الحسيني على بذل النصح والإصلاح
لم يترك سيدنا الحسين النصح للأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحظة واحدة من لحظات عمره الشريف. من يتتبع سيرته يرى مواقفه الصريحة والعلنية في كل التحولات التي عاصرها، فقد بين موقفه من غاصبي الخلافة في مسجد رسول الله رغم صغر سنه، وحارب مع أبيه في جميع حروبه، واشترك مع أخيه الحسن في مواجهة الظالمين، كما قرّع معاوية ووبخه كثيرا على ما ارتكبه من جرائم أيام تسلطه على رقاب المسلمين، واختتم مسيرته العظيمة بملحمة الطف الخالدة التي تجلت فيها أعلى درجات الإنكار للإنحراف والمنكرات.
نوّع المولى الحسين أساليب نصحه ووعظه، وأكثر مخاطبة القوم لا سيما يوم عاشوراء حتى نادى فيهم عمر ابن سعد: "ويلكم كلموه فإنه ابن أبيه، والله لو وقف فيكم هكذا يوما جديدا لما انقطع ولما حصر"(4)، هذا رغم أن الساحة كانت ساحة معركة وليست ساحة عقل ومنطق ونصح وإرشاد ولكن هكذا هي سيرة رسول الله وأمير المؤمنين والحسن والحسين الذين بذلوا غاية المجهود لإنقاذ المنحرفين وبكوا عليهم بمرارة وحرقة!
كذلك سار الأصحاب الأوفياء وخيرة أهل الأرض في ذلك الزمان، حيث تشهد لهم كتب التاريخ والمقاتل بأنهم لم يقصروا في تبيان الحق وأداء النصح وبعضهم نقلت له أكثر من خطبة رغم الاستجابة الضعيفة جدا–إن لم تكن معدومة- والرد بالسلاح من المعسكر المقابل في أحيان كثيرة.
لم تكن ممارسة النصيحة محاولة لقلب موازين القوى وتحقيق الغلبة، فنتيجة المعركة كانت محسومة سلفا وقد أخبر الإمام الحسين عامة الناس بمصيره قبل مسيره، ولكنها كانت محاولة لإنقاذ الغافلين والمغرر بهم من الطرف الآخر، وترسيخا لمبدأ الأمر بالمعروف وإلنهي عن المنكر في نفوس الأجيال المتعاقبة لمركزيته في حفظ الدين وصلاح الشؤون الدنيوية، وأداء للواجب الإنساني والديني في تبيين الحقيقة والتذكير بها "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ"(5).
- لحظة تفوق الخيال!!
بلغت رحمة الحسين وتفانيه في إنقاذ البشرية وتخليصها من شرورها درجة تعجز العقول عن إدراك كنهها، وتكل الألسن عن وصفها، ومن صور هذه الرحمة وهذا التفاني لحظة فاقت الخيال وتجاوزت حد التصور. لحظة قابلت فيها الرحمة والطهارة الوحشية والدنائة.
عندما كان إمامنا الحسين ملقا على رمال كربلاء الملتهبة غارقا في دمه الطاهر، تربّع الشمر على صدره المقدس وقبض على لحيته الطاهرة ليحز رأسه الشريف، لكن الإمام مع ذلك بذل مسعاه الأخير وما بقي من جهده في نصح عدوه! الحسين على صخرة المنحر ينصح ناحره! يا له من موقف تقف له الإنسانية إجلالا وإعظاما مدى الدهر. خاطب الإمام شمرا اللعين محاولا ثنيه عن أكبر جريمة، قائلا: "أتقتلني ولا تعلم من أنا؟ فقال: أعرفك حق المعرفة: أمك فاطمة الزهراء، وأبوك علي المرتضى، وجدك محمد المصطفى، وخصمك العلي الأعلى أقتلك ولا أبالي"(6) وفي رواية أخرى: "..فقال: أيما أحب إليك، الجائزة من يزيد، أو شفاعة جدي رسول الله؟ فقال اللعين: دانق من الجائزة أحب إلي منك، ومن جدك"(7).
- فلنسر على درب الحسين
إحياء ذكرى الحسين لا يتم باعتبارها أحداثاً تاريخية نقرؤها ونسمعها كل عام، فالقراءة والاستماع ومراسيم العزاء هي وسائل لغايات عملية تؤثر في واقع الأمة عبر العمل بسيرة ومبادئ الحسين. ذكرى الحسين ترسم برنامجا شاملا يتطلب تحركا عمليا -لا عاطفيا فقط- ممن يحيي هذه الذكرى لينصر إمامه الحسين ويحيي مبادئه وسيرته.
فلنبالغ في النصيحة لأمتنا ولنبذل غاية المجهود في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فلتكن همتنا أعلى من كل الجرائم والانحرافات، ولا تثنينا الإحباطات والمواقف السلبية عن أداء هذا الواجب المقدس، فقائدنا الحسين الذي أعذر في الدعاء وبذل مهجته في الله ليستنقذ العباد من الضلالة والجهالة والعمى والشك والارتياب إلى باب الهدى والرشاد، ونحن على خطه سائرون إن شاء الله تعالى حتى نلقى الله وقد أدينا الأمانة.
