من رؤى التوحيد في الحج
الأحكام الشرعية سواء كانت أوامر وجوبية أو استحبابية أوكانت نواهي على وجه الحرمة أو الكراهة أو مباحة فإنها تنطلق من زاوية المصالح والمفاسد بمعنى أن في رؤيتنا للفقه الإمامي نعتقد أن ليس هناك أمر شرعي ليس من ورائه مصلحة وليس هناك نهي شرعي ليس في فعله مفسده وهذه المصلحة والمفسدة - بالضرورة - راجعة إلى المكلف نفسه , لأن الله غني عن العالمين ، غني عن الصوم والصلاة والخمس وإن عبر جل وعلا في بعض الأحيان مجازاً بأنه شاكر لكنه خلق العباد ليرحمهم فجعل لهم دستوراً يشتمل على أوامر ونواهي تعود بالفائدة عليهم وهذه المفاسد والمصالح تارة تكون في نفس الفعل وتارة تكون في التزام المكلف بالفعل يعني نقول أن الصلاة كأمر الهي تشتمل على مصلحة نهي عن الفحشاء والمنكر عليه السلام ولذكر الله أكبر )كما يقول الله - عز وجل- عليه السلام إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) وأخرى تتكلم عن أمر الهي للنبي إبراهيم عليه السلامع) لقتل ابنه إسماعيل و لم تكن في الظاهر هناك مصلحة في ذبح إسماعيل ولكنها مصلحة في امتثال الأمر وأن يتجلى مدى توحيد وإخلاص إبراهيم حين يضحي بالولد المرتقب والذي رزقه الله على كبر، كما يقول الله تعالى ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ*فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ*وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [1]
المصلحة كانت في هذا الانقياد وهذا الاستسلام ولم تكن في الفعل المأمور به وهذا الأمر يسري في جميع الأوامر والنواهي الشرعية فتارة تكون المصلحة في الفعل نفسه وأخرى ليتبين مدى انقياد العبد لله جل وعلا .
عندما تستفسر لماذا شرعت صلاة الصبح ركعتين برغم استيقاظك نشطاً بينما صلاة الظهر والعصر أربع ركعات ومعها ثمان ركعات نوافل في وسط النهار والمكلف في قمة الإرهاق والتعب؟! ولماذا تكون صلاة الظهر والعصر إخفاتاً والمغرب والعشاء جهراً ؟! إلى غير ذلك ,وقد يصل المكلف إلى مصلحة التشريع وقد لايصل , المهم أن يكون الإنسان متيقناً أن الله لم يأمر بأمر إلا وهو يريد النفع للعبد وقد أخذ بعين الاعتبار مصلحته , فإن وصلنا إلى تلك المصلحة وفهمناها حمدنا الله أن رزقنا فقه شريعته ، وإن لم نصل سلمنا لله عز وجل , فلا نعبر عن ذلك بتهكم أو تخرص كما عبر أبو العلاء المعري في إشكاله على قطع اليد في شعره المعروف فهذه اليد التي ديتها حين تقطع خمسمائة دينار وتقطع حين تمتد لتسرق ربع دينار،إذ أن حد السرقة وهو القطع يشترط فيه أن يكون نصاب السرقة ربع دينار فأكثر فيقول أبو العلاء :
يد بخمس مئين عسجد فديت ما بالها قطعت في ربع دينار
فاليد التي ديتها خمسمائة دينار فضة كيف تقطع في ربع دينار فأجاب على نفسه بقوله
تحكم مالنا إلا السكوت به وأن نعوذ بمولانا من النار
فيجيبه السيد المرتضى علم الهدى :
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
فهذه اليد حينما تكون أمينة تكون ديتها 500 دينار وحينما تصبح خائنة تسقط عن الاعتبار وتكون أقل من ربع دينار .
في الرواية أن أبان بن تغلب يدخل على الإمام الصادق فيسأله عن دية قطع الرجل إصبعاً واحداً من أصابع المرأة فيجيب الإمام أن فيها عشرة من الإبل ،قال :فإن قطع اثنين؟ قال : ففيها عشرون ، قال وإن قطع ثلاثة ،قال :فيها ثلاثون ،قال أبان :فإن قطع أربعة ،فقال الإمام :ففيها عشرون ،فقال أبان : سبحان الله إن هذا الكلام كان ليبلغنا في العراق فكنا نقول أنه من قول الشيطان ،فقال الإمام :يا أبان إنك أخذتني بالقياس والسنة إذا قيست محق الدين .
لذا فإنك إن فقهت الحكمة سلمت وإن لم تفقهها فليس أمامك إلا أن تسلم أيضاً لله سبحانه وتعالى لأنه قد تكون هناك أوامر المراد منها فقط استسلام العبد وبيان مدى خضوعه وانقياده وليس مطلوباً منها الفعل الخارجي .
وسياق حديثنا لهذا اليوم إشارة إلى الحج وفلسفته كإشارة إجمالية وإلا فإن الوقوف على هذه الشعائر العظيمة تستغرق ساعات وساعات للوقوف عليها على قصر بالمتكلم وبضاعته المزجاة.
ونحن هنا لا نريد الحديث عن أصل التشريع وفلسفته وإنما نريد الخوض مباشرة في التفاصيل ولكن لنبدأ بهذا الحديث للإمام الرضا حول العلة التي شرع الحج من أجلها ، فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عز وجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً من ما مضى ، مستأنفاً لما يستقبل ، مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان ، والاشتغال عن الأهل والولد وحظر النفس عن اللذات ، شاخصاً في الحر والبرد ، ثابتاً على ذلك دائماً ، مع الخضوع والاستكانة والتذلل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض و غربها ، ومن في البر والبحر ، ممن يحج وممن لم يحج ، من بين تاجر وبائع ومشترِ وكاسب ومسكين ومكارٍ وفقير ، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه ، مع ما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمة إلى كل صقع وناحية ، كما قال الله عز وجل ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ التوبة 122 . و﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ الحج 28 .
وإن أول ما يطالعنا في هذا الركن العظيم من أركان الدين ميقات الحج والميقات اسم مكان واسم زمان وهنا يدخل الحجاج في ضيافة الرحمن ويرتقي آخذاً بأسباب التزود بالتقوى منصرفاً عن الدنيا وبهجتها ، وكأنه تذكير للحاج بيوم وقوفه بين يدي الله عز وجل في أول عرصة من عرصات يوم القيامة وأول موقف من مواقف يوم الطامة وأول ما تصنع في هذا الميقات التجرد مما يربطك بمالك لكي تلبس قطعتين غير مخيطتين – إزار ورداء – وهما مجموع ثوب الإحرام ، وهكذا يخرج المرء من قبره يوم القيامة بكفن كهذا الإحرام ليقف بين يدي الله جل وعلا . وكأنك حين تقف في الميقات خارجاً من الدنيا فلا تدخل لحرم الله بغير ما ستدخل به يوم القيامة فالإحرام والكفن شيء واحد ، وقد ورد الكثير من الأحاديث عن أئمة العصمة في استحباب التكفين بثياب الإحرام أو الصلاة .
كخبر معاوية عن أبي عبد الله قال كانا ثوبا رسول الله اللذان أحرم فيهما يمانيين ، عبدي واظفار ، ومنها كُفِّن ) .
وخبر محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر قال: أذا اردت أن تكفنه فان استطعت أن يكون في كفنه ثوب كان يصلي فيه نظيف فافعل ، فإن ذلك يستحب أن يكفن فيما كان يصلي فيه) .
فالذي يبقى هناك هو العمل الذي يؤنس صاحبه في القبر ،لا ولدك ولا مالك ، إلا أن تكون قد قدمت مالك إلى الله جل وعلا فتراه حاضراً لإنه يتحول إلى عمل وكذا أبناؤك .
فالإشارة الأولى في الإحرام تبين ما ينبغي أن تكون عليه علاقة المؤمن بالمال في هذه الدنيا والثانية بتجردك عن محرمات الإحرام تدريب على ضبط الشهوة ، فنحن في حياتنا اليومية نغفل ونبتعد عن الصراط ، ولكننا عندما نخلع ثوب الدنيا ونلبس ثوب الإحرام نحرم ونلتزم بمجموعة المحرمات المشددة .
يقول الله تعالى ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ البقرة آيه 197 .
ويقول الإمام الرضا :
وإنما أمروا بالإحرام ليخشعوا قبل دخولهم حرم الله وأمنه ولئلا يلهوا وينشغلوا بشيء من أمور الدنيا وزينتها ولذاتها ، ويكونوا جادين فيما هم فيه ، قاصدين نحوه مقبلين عليه بقلبهم ، مع مافيه من التعظيم لله عزوجل ولبيته ، والتذلل لأنفسهم عن قصدهم إلى الله عزوجل ووفادتهم إليه راجين ثوابه ، راهبين من عقابه ، ما ضين نحوه ، مقبلين إليه بالذل والإستكانه والخضوع ) [2].
هنا يريد الشرع أن يشير إليك كيف ينبغي أن تكون حركة الإنضباط في الحياة ، كيف ينبغي للمرء أن يكون منضبطاً مجرداً عن كل شهوة ، فهذه الشهوات إذا أطلق لها العنان أصبحت حائلاً يحول بينك وبين الوصول إلى ربك .
إما إذا جعلتها ضمن حركة الضبط الشرعي حيث يعودك الحج على ذلك فالمنتهى الوصول إلى رضوان الله عز وجل .
فبالأحرام يحرم عليك مجموعة من الأمور يعرّفها الفقهاء عليه السلامبتروكات الإحرام أو محرمات الإحرام يجب على المحرم خمسة وعشرون أمراً [3]
فبعد الإحرام ، لا زينة ولا طيب ولا لبس مخيط ولا صيد ولا جنس إلى غير ذلك من المحرمات . فضبط هذه الشهوات ضبط للنفس وضمان للتقرب إلى الله عز وجل ، وإطلاق العنان لها بعد عن الله ، بعد عن الجنة ، قرب من النار فالإحرام درس في ضبط الشهوة والسيطرة على النفس كي لا تنفلت من عقالها يميناً أو شمالاً .
والآن وبعد أن أحرمت من الميقات وتجردت من الدنيا وما فيها ، أنت على أعتاب مكة المكرمة ، التي جعلها الله سبحانه حرماً أمناً .. ومكاناً مقدساً وبيتاً مطهراً . وفيه يقول الإمام الصادق : إن الله عز وجل يقول في كتابه ﴿ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلا وهو طاهر قد غسل عرقه والأذى وتطهر [4] .
وروى أبان بن تغلب قال : كنت مع أبى عبدالله : ( زاملاً في ما بين مكة والمدينة ،فلما انتهى إلى الحرم نزل وغتسل وأخذ نعليه بيديه ثم دخل الحرم حافياً ، فصنعت مثل ما صنع فقال : يا أبان من صنع مثلما رأيتني صنعت تواضعاً لله ، محى الله عنه مائة ألف سيئة وكتب له مائة ألف حسنه ، وبنى الله له مائة ألف درجة ، وقضى الله له مائة ألف حاجة ) [5].
إذاً فلا تستطيع أن تدخل إلى البيت وقلبك متعلق بهذه الدنيا مالاً أو زينه أو شهوة ، فإذا تخليت عن مالك جاعلاً إياه ضمن حركة التشريع وتطهرت من حب الدنيا وزينتها ، هناك حق لك الدخول إلى حرم الله متجاوزاً الميقات ، و كأنك في ميقات يوم القيامة و حوسبت متبين نجاحك في ابتلاء المال و الشهوة و الزينة و أُذن لك بدخول الجنة ، فالحرم كالجنة من دخله كان آمناً ، وهذا الأمن لا يتأتى إلى بالتجرد ، فإن لم يتجرد المؤمن جاء يحمل أثقالاً على ظهره – و العياذ بالله – فالنجاح هنا أولاً إن نجح في امتحان الدنيا ، يدخل الجنة آمناً و يؤتي كتابه بيمينه و يعبر الصراط إلى الجنة ، بل أن قبره يصبح روضة من رياض الجنة .
ثم إن أول ما نفعله بعد دخول الحرم هو الطواف بالبيت سبعاً ، ولعل فلسفة الطواف تكمن في فلسفة التوحيد .
عن محمد بن سنان أن الرضا كتب إليه فيما كتب من جواب مسألة علّة الطواف بالبيت أن الله قال للملائكة إني جاعلُ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فردوا على الله فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا ، فأحب الله أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء الرابعة بيتاً بحذاء العرش يسمى الضراح ، ثم وضع في السماء الدنيا بيتاً يسمى البيت المعمور بحذاء الضراح ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ، ثم أمر آدم عليه السلام فطاف به فتاب عليه ، وجرى ذلك في ولده إلى يوم القيامة .
كثير من الناس يصلون إلى الهداية بسبب الحج عندما يعرفون حقيقة الحج و جوهره . فقد من الله عز وجل على أحد المفكرين الإيرانيين بالهداية عنما حج و قد كان هذا الرجل من اعلام الفكر الماركسي و الشيوعي و قد حج قاصداً الإستهزاء بهذه المناسك و برحمة من الله و توفيقه توصل إلى عظمة هذه الأركان التي أحدثت هزة في اعماقه ، فيعود إلى الله عز وجل و يترك الفكر الماركسي بعد أعوام عديدة من الضلال و الإنحراف فهو حين يرى - و هذا من جملة ما كان يؤكد عليه - جموع الطائفين المتحلقين حول البيت في شعيرة كشفت له فلسفة التوحيد فمحور هذا الكون هو الله عز وجل ، و بدوران الحاج حول البيت و كأنما يدور حول هذا المحور لا ينحرف عنه قيد أنملة و لا يلتف إلى غيره . و بالتالي ينزع الحاج من نفسه كل ما اتخذه نداً لله ولو للحظة من لحظات حياته . سواء كان مالاً أو أولاداً أو مجتمعاً أو حاكماً … هناك تخلع كل شيئ و تستشعر عظمة الكون و خالقه .
ألا كل شيئ ما خلا الله باطل و كل نعيم لا محالة زائل
يقول الإمام الصادق :
- و أحرم عن كل شيئ يمنعك عن ذكر الله عز وجل و يحجبك عن طاعته
- ولبِّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عز وجل من دعوتك له مستمسكاً بالعروة الوثقى
- وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت[6]
في الطواف تشعر بعزة الله و عزة المؤمنين الموحدين الذين أعزهم الله بعزه .
يقول أبو حنيفة النعماني في دخوله على مجلس الإمام الصادق في حضرة المنصور : فداخلني من رؤية جعفر بن محمد من الهيبة ما لم يداخلني من رؤية أبو جعفر المنصور فإن كان بيد ابي جعفر المنصور السلطة و المال ، فإن بيد الإمام العزة ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾[7]
إذاً حين تطوف بالبيت تستشعر إخلاص العبودية لله ، و إخلاص نفسك للحق ثم تأتي للمسعى لتستشعر أولاً أن الحياة سعي ، و أن جلوس الإنسان في بيته إستكانة و خنوع يضاد معنى الحياة .
﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [8] ويقول الإمام الصادق : ( و هرول هرولة فرّاً من هواك و تبرّياً من جميع حولك و قوتك )
وقد أشرنا إلى أنه يجب على الإنسان أن يتجرد من الحياة الدنيا و زينتها لكن هذا لا ينافي أن يكون ساعياً و كادحاً . وأنت حين تكدح من نقطة محدودة في الصفا إلى نقطة محدودة من المروة في حركة دائرة تتعلم أن يكون سعيك ضمن حركة التشريع منضبطاً في حدود الله عز وجل ، وليس سعياً كما تشاء و تحب . أترى أن خروج الحاج عن دائرة الصفا و المروة ألا يبطل سعيه ؟ نعم يبطل السعي وكذا يبطل سعيه في الحياة إن لم يكن منضبطاً بحدود الشرع و يجعله الله سبحانه عمله هباءً منثورا ، فالله سبحانه لا ينظر للأعمال مجردة بل ينظر للنية ـ فكل عمل مرهون بنيته – .
إن شهيد الحمار قتل في معركة أحد و حمزة ابن عبد المطلب قتل في معركة أحد أيضاً ولكن يبقى حمزة سيد الشهداء ، و شهيد الحمار لم نعد نذكر حتى اسمه فنيته كانت للحصول على الحمار ، فلم يحصل على الحمار و لم يصل إلى الجنة !
و يؤتى بقارئ القرآن أيضاً يوم القيامة فيأمر الله به إلى النار ، فيقول : يا رب كنت أقرأ القرآن .
فيقول له الله عز وجل : قرأت القرآن كي يقال أنك قارئ وقد قيل .
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [9].
وفي مضمون بعض الروايات أنه لو عبد الإنسان ألف سنه راكعاً وساجداً بين الركن والمقام ولم يلق الله بولايتنا أهل البيت ما كان له على الله شيء .
فالله سبحانه يريد العمل الدنيوي أو الأخروي ولكن ضمن تشريعية و ضمن حدوده ، وإن كان قليلاً .
و يقول الإمام لولده ، وقد رآه يجهد نفسه في العبادة : (إن الله إذا أحب عبداً قبل منه اليسير ) .
وبعد السعي ، حين يتوجه الحاج إلى عرفات ليقف فيها فيذكره موقف عرفات و موقف مزدلفة و نفرة الناس ، بمواقف يوم القيامة ، لانها كالمحشر فكل شخص يؤتّى أنانيته ، كل يقول نفسي،حيث يتدافع الناس من أجل شبر من أرض قفراء قاحلة .
يقول الإمام الصادق :
- و اعترف بالخطأ بعرفات ، و جدد عهدك عند الله تعالى بوحدانيته .
- تقرب إليه واتقه بمزدلفة ، و اصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل .
- و اخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلى منى و لا تمنّ ما لا تحل و لا تستحقه .
- و اذبح حنجرة الهوى و الطمع عند الذبيحة .
- وارم الشهوات و الخساسة و الدناءة و الأفعال الذميمة عند رمي الجمرات .
هذه بعض الشذرات السريعة والمعاني الرفيعة التي يمكن الوقوف عليها ـ في هذه العجالة ـ في الحديث عن الفلسفة الإجمالية للحج ـ سائلين الله ـ جل وعلا ـ أن يرزقنا وإياكم حج بيته الحرام في عامنا هذا وفي كل عام وأن يغفر لنا ذنوبنا العظام إنه سميع مجيب .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين